طه حسين أديب وناقد مصري كبير، لُقّب بعميد الأدب العربي. غيّر الرواية العربية، خالق السيرة الذاتيّة مع كتابه "الأيام" الذي نشر عام 1929. وهو بدون الشك من أعظم الشخصيات في الحركة العربية الأدبية الحديثة.
ولادته
ولد طه حسين في الرابع عشر من نوفمبر سنة 1889 في عزبة "الكيلو" التي تقع على مسافة كيلو متر من "مغاغة" بمحافظة المنيا بالصعيد الأوسط، وكان والده حسين عليّ موظفًا صغيرًا رقيق الحال في شركة السكر، يعول ثلاثة عشر ولدًا سابعهم طه حسين.
ضاع بصره في السادسة من عمره بعد اصابته بالرمد ، نتيجة الفقر والجهل، وحفظ القرآن الكريم قبل أن يغادر قريته إلى الأزهر، وتتلمذ على الإمام محمد عبده. طرد من الأزهر، ولجأ إلى الجامعة المصرية في العام 1908 ودرس الحضارة المصرية القديمة والإسلامية والجغرافيا والتاريخ والفلك والفلسفة والأدب وعكف علي إنجاز رسالة الدكتوراه التي نوقشت في ١٥ مايو ١٩١٤التي حصل منها على درجة الدكتوراه الأولى في الآداب عن أديبه الأثير: أبي العلاء المعري.ثم سافر إلي باريس ملتحقًا بجامعة مونبلييه وفي عام ١٩١٥ أتم البعثة.
وحصل علي دكتوراه في علم الاجتماع عام ١٩١٩ ثم - في نفس العام - حصل علي دراسات عليا في اللغة اللاتينية والروماني وعين أستاذًا لتاريخ الأدب العربي
عاد من فرنسا سنة 1918 بعد أن فرغ من رسالته عن ابن خلدون، وعمل أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني إلى سنة 1925 حيث تم تعيينه أستاذًا في قسم اللغة العربية مع تحول الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية. وما لبث أن أصدر كتابه "في الشعر الجاهلى" الذي أحدث عواصف من ردود الفعل المعارضة.
تواصلت عواصف التجديد حوله، في مؤلفاته المتتابعة، طوال مسيرته التي لم تفقد توهج جذوتها العقلانية قط، سواء حين أصبح عميدًا لكلية الآداب سنة 1930، وحين رفض الموافقة على منح الدكتوراه الفخرية لكبار السياسيين سنة 1932، وحين واجه هجوم أنصار الحكم الاستبدادي في البرلمان، الأمر الذي أدى إلى طرده من الجامعة التي لم يعد إليها إلا بعد سقوط حكومة صدقي باشا.
لم يكف عن حلمه بمستقبل الثقافة أو انحيازه إلى المعذبين في الأرض في الأربعينات التي انتهت بتعيينه وزيرًا للمعارف في الوزارة الوفدية سنة 1950 فوجد الفرصة سانحة لتطبيق شعاره الأثير "التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن".
وظل طه حسين على جذريته بعد أن انصرف إلى الإنتاج الفكري، وظل يكتب في عهد الثورة المصرية، إلى أن توفي عبد الناصر وقامت حرب أكتوبر التي توفي بعد قيامها في الشهر نفسه سنة 1973.
وتحفته "الأيام" أثر إبداعي من آثار العواصف التي أثارها كتابه "في الشعر الجاهلي" فقد بدأ في كتابتها بعد حوالي عام من بداية العاصفة، كما لو كان يستعين على الحاضر بالماضي الذي يدفع إلى المستقبل. ويبدو أن حدة الهجوم عليه دفعته إلى استبطان حياة الصبا القاسية، ووضعها موضع المسائلة، ليستمد من معجزته الخاصة التي قاوم بها العمى والجهل في الماضي القدرة على مواجهة عواصف الحاضر.
ولذلك كانت "الأيام" طرازًا فريدًا من السيرة التي تستجلي بها الأنا حياتها في الماضي لتستقطر منها ماتقاوم به تحديات الحاضر، حالمة بالمستقبل الواعد الذي يخلو من عقبات الماضي وتحديات الحاضر على السواء، والعلاقة بين الماضي المستعاد في هذه السيرة الذاتية والحاضر الذي يحدد اتجاه فعل الاستعادة أشبه بالعلاقة بين الأصل والمرآة، الأصل الذي هو حاضر متوتر يبحث عن توازنه بتذكر ماضيه، فيستدعيه إلى وعي الكتابة كي يتطلع فيه كما تتطلع الذات إلى نفسها في مرآة، باحثة عن لحظة من لحظات اكتمال المعرفية الذاتية التي تستعيد بها توازنها في الحاضر الذي أضرّ بها.
ونتيجة ذلك الغوص عميقًا في ماضي الذات بمايجعل الخاص سبيلا إلى العام، والذاتي طريقًا إلى الإنساني، والمحلي وجهًا آخر من العالمي، فالإبداع الأصيل في "الأيام" ينطوي على معنى الأمثولة الذاتية التي تتحول إلى مثال حي لقدرة الإنسان على صنع المعجزة التي تحرره من قيود الضرورة والتخلف والجهل والظلم، بحثًا عن أفق واعد من الحرية والتقدم والعلم والعدل. وهي القيم التي تجسّدها "الأيام" إبداعًا خالصًا في لغة تتميز بثرائها الأسلوبي النادر الذي جعل منها علامة فريدة من علامات الأدب العربي الحديث. ولعل هذه السمة هي التي ستجعل من طه حسين رمزاً مؤثراً فيما بعد على مسيرة الفكر العربي الحديث، بالرغم من أنه لم يتركاً أثراً فكرياً أو فلسفياً محضاً، إلا إذا استثنينا بالطبع قراءاته الإشكالية للتراث الأدبي، وهو ما يمكن تصنيفه دائماً تحت باب النقد.
تجدر الإشارة إلى أنه نشر معظم كتبه لدى تلميذه في كلية الاداب بهيج عثمان اللبناني صاحب دار العلم للملايين في بيروت.
مؤلفاته
الفتنة الكبرى عثمان.
الفتنة الكبرى علي وبنوه.
في الأدب الجاهلي.
الأيام.
دعاء الكروان.
شجرة السعادة.
المعذبون في الأرض.
على هامش السيرة.
حديث الأربعاء.
من حديث الشعر والنثر.
مستقبل الثقافة في مصر.
أديب
وفاته
توفي في 29 أكتوبر 1973 عن عمر يناهز 84 عاماً.
ولد طه حسين عام 1889، وعاش طفولته الباكرة في احدى قرى الريف المصري. ثم انتقل إلى الأزهر للدراسة، ولم يوفق فيه، فتحول إلى الجامعة المصرية، وحصل منها على الشهادة الجامعية ، ثم دفعه طموحه لاتمام دراساته العليا في باريس، وبالرغم من اعتراضات مجلس البعثات الكثيرة، الا انه اعاد تقديم طلبه ثلاث مرات، ونجح في نهاية المطاف في الحصول على شهادة الدكتوراه في باريس. بعد عودته لمصر ، أنتج اعمالاً كثيرة قيمة منها على هامش السيرة، والايام، ومستقبل الثقافة في مصر، وغيرها. وهو يعتبر بحق "عميد الأدب العربي" نظراً لتأثيره الواضح على الثقافة المصرية والعربية.
وقد نشر الجزء الاول من الايام في مقالات متتالية في اعداد الهلال عام 1926 ، وهو يُعد من نتاج ذات المرحلة التي كتب خلالها : في الشعر الجاهلي. وتميزت هذه الفترة من حياة الاديب الكبير - رحمه الله - بسخطه الواضح على تقاليد مجتمعه وعاداته الشائعة في كتاباته . ومن المؤكد ان لهذه المرارة دوافعها : فطه حسين فقد البصر صغيراً بسبب جهل اسرته باسس الرعاية الصحية. وهي خسارة فاحشة لا يمكن تعويضها . وقد رفض المجتمع المصري المحافظ الكثير من ارائه في موضوعات مختلفة حين رجوعه من فرنسا كذلك.
لهذه الاسباب وغيرها ، يعتبر الايام سيرة ذاتية تعبر عن سخط كاتبها بواقعه الاجتماعي ، خاصة بعد ان عرف الحياة في مجتمع غربي متطور . الاجزاء التي اخترناها هنا تصف مرحلة مهمة في حياة طه حسين الفكرية : اذ ترسم صورة حزينة لمساعيه للدراسة في الازهر، موضحةً اعتراضاته على نظام التعليم الشائع فيه آنذاك، واسباب عدم نجاحه في الحصول على الشهادة التي نجح من هو اقل منه شأناً وعلماً في امتلاكها.
طه حسين (1889-1973) واحد من أهم -إن لم يكن أهم- المفكرين العرب في القرن العشرين.
وترجع أهميته إلى الأدوار الجذرية المتعددة التي قام بها في مجالات متعددة, أسهمت في الانتقال بالإنسان العربي من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية, ومن الظلم إلى العدل, ومن التخلف إلى التقدم, ومن ثقافة الإظلام إلى ثقافة الاستنارة, فهو أجسر دعاة العقلانية في الفكر,
والاستقلال في الرأى, والابتكار في الإبداع, والتحرر في البحث الأدبي, والتمرد على التقاليد الجامدة.
وهو أول من كتب عن (مستقبل الثقافة) بالحماسة التي كتب بها عن (المعذبين في الأرض), وبالشجاعة التي تحرر بها من ثوابت النقل البالية, فاستبدل الاجتهاد بالتقليد, والابتداع بالاتباع, وأقام الدنيا ولم يقعدها حين أصدر كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي كان بمثابة الاستهلال الجذري للعقل العربي المحدث والحديث في آن.
ولد طه حسين في الرابع عشر من نوفمبر سنة 1889 في عزبة (الكيلو) التي تقع على مسافة كيلومتر من (مغاغة) بمحافظة المنيا بالصعيد الأوسط. وكان والده حسين عليّ موظفًا صغيرًا, رقيق الحال, في شركة السكر, يعول ثلاثة عشر ولدًا, سابعهم طه حسين.
ضاع بصره في السادسة من عمره نتيجة الفقر والجهل, وحفظ القرآن الكريم قبل أن يغادر قريته إلى الأزهر طلبًا للعلم. وتتلمذ على الإمام محمد عبده الذي علمه التمرد على طرائق الاتباعيين من مشايخ الأزهر, فانتهى به الأمر إلى الطرد من الأزهر, واللجوء إلى الجامعة المصرية الوليدة التي حصل منها على درجة الدكتوراه الأولى في الآداب سنة 1914 عن أديبه الأثير: أبي العلاء المعري. ولم تمر أطروحته من غير ضجة واتهام من المجموعات التقليدية حتى بعد أن سافر إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه الفرنسية.
وعاد من فرنسا سنة 1919 بعد أن فرغ من رسالته عن ابن خلدون, وعمل أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني إلى سنة 1925, حيث تم تعيينه أستاذًا في قسم اللغة العربية مع تحول الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية. وما لبث أن أصدر كتابه (في الشعر الجاهلى) الذي أحدث عواصف من ردود الفعل المعارضة, وأسهم في الانتقال بمناهج البحث الأدبي والتاريخي نقلة كبيرة فيما يتصل بتأكيد حرية العقل الجامعي في الاجتهاد.
وظل طه حسين يثير عواصف التجديد حوله, في مؤلفاته المتتابعة ومقالاته المتلاحقة وإبداعاته المتدافعة, طوال مسيرته التنويرية التي لم تفقد توهج جذوتها العقلانية قط, سواء حين أصبح عميدًا لكلية الآداب سنة 1930, وحين رفض الموافقة على منح الدكتوراه الفخرية لكبار السياسيين سنة 1932, وحين واجه هجوم أنصار الحكم الاستبدادي في البرلمان, الأمر الذي أدى إلى طرده من الجامعة التي لم يعد إليها إلا بعد سقوط حكومة صدقي باشا. ولم يكف عن حلمه بمستقبل الثقافة أو انحيازه إلى المعذبين في الأرض في الأربعينات التي انتهت بتعيينه وزيرًا للمعارف في الوزارة الوفدية سنة 1950, فوجد الفرصة سانحة لتطبيق شعاره الأثير (التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن).
وظل طه حسين على جذريته بعد أن انصرف إلى الإنتاج الفكري, وظل يكتب في عهد الثورة المصرية, إلى أن توفي عبد الناصر, وقامت حرب أكتوبر التي توفي بعد قيامها في الشهر نفسه سنة 1973.
وتحفته (الأيام) أثر إبداعي من آثار العواصف التي أثارها كتابه (في الشعر الجاهلي), فقد بدأ في كتابتها بعد حوالي عام من بداية العاصفة, كما لو كان يستعين على الحاضر بالماضي الذي يدفع إلى المستقبل. ويبدو أن حدة الهجوم عليه دفعته إلى استبطان حياة الصبا القاسية, ووضعها موضع المساءلة, ليستمد من معجزته الخاصة التي قاوم بها العمى والجهل في الماضي القدرة على مواجهة عواصف الحاضر.
ولذلك كانت (الأيام) طرازًا فريدًا من السيرة التي تستجلي بها الأنا حياتها في الماضي لتستقطر منها ما تقاوم به تحديات الحاضر, حالمة بالمستقبل الواعد الذي يخلو من عقبات الماضي وتحديات الحاضر على السواء. والعلاقة بين الماضي المستعاد في هذه السيرة الذاتية والحاضر الذي يحدد اتجاه فعل الاستعادة أشبه بالعلاقة بين الأصل والمرآة, الأصل الذي هو حاضر متوتر يبحث عن توازنه بتذكر ماضيه, فيستدعيه إلى وعي الكتابة كي يتطلع فيه كما تتطلع الذات إلى نفسها في مرآة, باحثة عن لحظة من لحظات اكتمال المعرفية الذاتية التي تستعيد بها توازنها في الحاضر الذي أضرّ بها.
ونتيجة ذلك الغوص عميقًا في ماضي الذات بما يجعل الخاص سبيلا إلى العام, والذاتي طريقًا إلى الإنساني, والمحلي وجهًا آخر من العالمي, فالإبداع الأصيل في (الأيام) ينطوي على معنى الأمثولة الذاتية التي تتحول إلى مثال حي لقدرة الإنسان على صنع المعجزة التي تحرره من قيود الضرورة والتخلف والجهل والظلم, بحثًا عن أفق واعد من الحرية والتقدم والعلم والعدل. وهي القيم التي تجسّدها (الأيام) إبداعًا خالصًا في لغة تتميز بثرائها الأسلوبي النادر الذي جعل منها علامة فريدة من علامات الأدب العربي الحديث.
ذكريات محمود البدوى وطه حسين
اعداد: على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى
جاء محمود البدوى من الصعيد فى العشرينات من القرن العشرين بعد حصوله على الشهادة الإبتدائية ، جاء إلى القاهرة ، والتحق بالمدرسة السعيدية الثانوية .. ويقول :
" والمدرسون فى ذلك الوقت حبهم للأدب واضح والاطلاع والقراءة مستمرة .. وكانوا يضربون لنا المثل بشعر شوقى .. ونكت المازنى وفكاهاته وسخريته المطلقة .. وبعضهم كان يحب .. مصطفى صادق الرافعى لأسلوبه البليغ إلى درجة التمجيد .. وليس هذا أستاذ أدب أو عربى .. ولكن يقطع الدراسة فى حصة الجغرافيا والطبيعة .. ويحدثنا عن خبر هؤلاء الأعلام (1) .
وكان الشيخ شتا .. وهو شيخ مع لبسه البدلة .. يجعلنا ننتقد أساليب الكتاب المعاصرين .. وانتقدنا أسلوب طه حسين .. وأنه كثيرا ما يطيل حيث يتطلب الأمر الإيجاز ويكثر من المترادفات ، ويستعمل لفظة غليظ فى اسراف .. وتبسم الشيخ شتا .. وقال لنا إن لفظة غليظ موجودة فى القرآن " عذاب غليظ " فقلنا له إن الوصف فى القرآن هو أدق وأبلغ موضع .. ولكن الأمر يختلف مع طه حسين .. لذلك اللفظ .. (2) . وأنه كثير المترادفات والجمل الاعتراضية لأنه كان يملى والذى يملى غير الذى يكتب بيده (3) .
***
نجح محمود البدوى فى امتحان البكالوريا والتحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إبان عمادة الدكتور طه حسين لها .. ويقول :
" وفى دراسة قيمة عن الأسلوب بالجامعة المصرية فى أوائل مراحل تكوينها ، سألنا الأستاذ ، ولا داعى لذكر اسمه وقد نسيته .. لأنه كان يتملق طه حسين .. وكان طه حسين وقتها عميدا لكلية الآداب بالجامعة ..
سألنا الأستاذ بعد استعراضه لكلمة " بوفون " الخالدة .. " الأسلوب هو الكاتب " .
سألنا عن أجمل الأساليب فى الكتاب المعاصرين .. وكانت الغالبية من الطلاب خارجة من معطف " المنفلوطى " وعباءة الزيات " فقلنا المنفلوطى والزيات .. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى .. وظهر على وجهه الامتعاض وهو يسأل :
ـ وطه حسين ..؟
فأجبنا .. بأننا لم نقرأ له بالدرجة التى تجعلنا نحكم على اسلوبه ، وفى إجابتنا كل الصدق .. فقد كان المنفلوطى .. والزيات .. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى .. هم بلغاء العصر فى نظرنا وأسلوبهم فى التعبير هو أجمل وأرق الأساليب.
ويقول البدوى فى حوار معه نشر بصيفة الجمهورية فى 25|12|1975 " تأثرت بالرائد طه حسين .. أقدس فكره " .
***
ولما صدرت مجلة الرسالة ، وانتقل البدوى من السويس للعمل بمقر وزارة المالية فى القاهرة .. يقول :
" كان هناك ثالوث منا نحن الشباب يكتب فى المجلة ويعتز بها ويتردد عليها يوميا فى فترة ما .. الدكتور حسن حبشى والأستاذ فتحى مرسى وأنا نكتب المقال والقصة والشعر (5) والزيات كان يعطى كبار كتابنا فى ذلك الوقت " العقاد " و " طه حسين " خمس جنيهات ثمنا للمقالة (6) .
وفى 25 مارس 1953 تأسس نادى القصة فى مصر وتولى رئاسته الدكتور طه حسين ، والأستاذ الأديب يوسف السباعى سكرتير النادى وكان مقر النادى فى ذلك الوقـت فى ميـدان التحرير .
ويقول البدوى :
" كان استاذنا توفيق الحكيم يحضر بعصاه وغطاء رأسه وعلى وجهه الصمت والتأمل ، كما كان يحضر فريد أبو حديد .. ويحيى حقى .. واحسان عبد القدوس صاحب فكرة النادى ، وهو الذى عندما راودته الفكرة عرضها على يوسف السباعى فنفذها هذا سريعا بطريقته التى لايشوبها التردد " .
" حملت معى إلى نادى القصة ذات مساء مجموعة قصص صدرت لى حديثا " حدث ذات ليلة " (7) وكان فى النادى طه حسين .. وتوفيق الحكيم .. ويوسف السباعى .. وعبد الحميد السحار .. وغراب .. فأهديت نسخة إلى طه حسين ومثلها إلى توفيق الحكيم .. وتركت الثلاث نسخ الباقية على مكتب يوسف السباعى .
وفى الأسبوع التالى .. جاء الدكتور طه إلى النادى وسلمت عليه مع المسلمين ، وبعد أن استراح قليلا أخذ يتحدث عن قصص المجموعة .. ويلخص كل قصة فى ايجاز فيه كل اللمحات الإنسانية .. مع التركيز على لب القصة ومحورها .. وقد شكرته فى خجل شديد .. وأنا مذهول من هذه الذاكرة الفذة .. فقد كان يسرد وقائع نسيتها وأنا كاتبها .
ولما صدرت لى " مجموعة العربة الأخيرة "( رأى غراب (9) أن أهديها للدكتور أيضا .. فأهديتها له .. وحمل إلىّ أمين فى نفس الأسبوع كتاب " الفتنة الكبرى " للدكتور ردا على هديتى .
وتحدث الدكتور طه بعد ذلك بسنوات فى الإذاعة عن بعض الأدباء وكتاب القصة الجدد ولم أسمعه .. وحدثنى من سمعه أنه عندما أراد أن يذكر اسمى .. كان قد نسيه .. فقال محمود ال .. ال.. البدوى ونطق البدوى بعد ثوان من التوقف .. وكان لقائى الأول مع طه حسين فى النادى كما أسلفت .. واللقاء الأخير فى بيته عندما مرض ، ورأى المرحوم يوسف السباعى أن يجتمع مجلس إدارة النادى فى بيت الدكتور بالهرم ، وكان ذلك فى آخر أيامه رحمه الله (10) " .
وحينما حلت الذكرى السابعة على وفاة طه حسين .. يقول البدوى :
" طه حسين هو أول من فتح عيوننا على الدراسة المنهجية العميقة التى تعرف جيدا كيف تدرس بيئة الشاعر وحياته ومن اختلط ومن تأثر بهم ..
ومثل هذه الدراسة هى الدراسة الحقيقية للأديب الشاعر .
وكان كتابه " الأيام " قمة من ناحية السرد الذاتى للحياة الشخصية ، وإن كنت أفضل لو كان كتبه بضمير المتكلم المباشر ، أى بلسان الراوى ، فيذكر :
أنا فعلت ، أنا عشت ، أنا انتقلت
بدل قوله :
كان صاحبك يا ابنتى ..
لأن هذه الطريقة التى استخدمها أفقدت الكتاب ما يقرب من نصف قوته (11) " .
(1) حوار مع محمود البدوى نشر فى مجلة الكواكب المصرية 26|11|1985
(2) محمود البدوى فى " ذكريات مطوية " ـ مجلة الثقافة المصرية .. العدد 93 يونية 1981
(3) ص . الرياض 7|10|1984
(4) محمود البدوى فى " ذكريات مطوية " ـ م . الثقافة المصرية .. العدد 93 يونية 1981
(5) محمود البدوى فى " ذكرياتى فى الأدب والحياة " ـ م . الثقافة المصرية .. العدد 49 أكنوبر 1977
(6) حوار مع محمود البدوى نشر فى مجلة الكواكب المصرية 26|11|1985
(7) كتاب " حدث ذات ليلة " الطبعة الأولى 1953 دار مصر للطباعة ـ الطبعة الثانية 1965 الدار القومية للطباعة والنشر
( كتاب " العربة الأخيرة " الطبعة الأولى 1948 مكتبة مصر ومطبعتها ـ الطبعة الثانية 1960 الكتاب الذهبى
(9) أمين يوسف غراب عضو نادى القصة وكان شديد الاتصال بالدكتور طه حسين
(10) محمود البدوى فى " ذكريات مطوية " م . الثقافة المصرية .. العدد 76 يناير 1980
(11) حوار مع محمود البدوى ـ ص . المساء المصرية 1|9|1980
السيد الأستاذ رئيس التحرير مع خالص الشكر والتحية
على عبد اللطيف - القاهرة
نماذج من أعمال الكاتب
مع أبي العلاء في سجنه
مع المتنبي
جنة الشوك
من الأيام
حافظ وشوقي
الفتنة الكبرى-عثمان
على هامش السيرة2
على هامش السيرة1
نظام الأثينيين
الفتنة الكبرى-علي وبنوه
في الشعر الجاهلي
ألوان
حديث الأربعاء1
حديث الأربعاء2
حديث الأربعاء3
حديث المساء
مرآة الإسلام
من الأيام
واقبل صاحبنا على دروسه في الازهر وغير الازهر من المساجد . فأمعن في الفقه والنحو والمنطق ، واخذ يحسن "الفنقلة" التي كان يتنافس فيها البارعون من طلاب العلم في الأزهر على المنهج القديم ، ويسخر منها المسرفون في التجديد ، ولا يُعرض عنها المجددون العتدلون . واذا هو يدرس شرح الطائي على الكنز مصبحاً ، والازهرية مع الظهر ، وشرح السيد الجرجاني على ايساغوجي ممسياً . وكان يحضر الدرس الاول في الازهر ، والدرس الثاني في مسجد محمد بك ابي الذهب ، والدرس الثالث في مسجد الشيح العدوي على استاذ من سلالة الشيخ العدوي نفسه . وربما الم بدرس من دروس الضحى كان يُقرأ فيه كتاب قطر الندى لابن هشام تعجلاً للتعمق في النحو والفراغ من كتب المبتدئين والوصول الى شرح ابن عقيل على الالفية . ولكنه لم يكن يواظب على هذا الدرس . كان يستجهل الشيخ ، ويرى في "فنقلة" الشيح عبد المجيد الشاذلي حول الازهرية وحاشية العطار ما يكفيه ويرضيه.
وقد بقيت في نفسه آثار لا تمحى من درس الازهرية هذا ، ففيه تعلم "الفنقلة" حقاً ، وكان اول ذلك هذا الكلام الكثير والجدال العقيم حول قول المؤلف "وعلامة الفعل قد" ، فقد اتقن صاحبنا ما اثير حول هذه الجملة البريئة من الاعتراضات والاجوبة ، واتعب شيخه جدالاً وحواراً حتى سكت الشيخ فجأة اثناء هذا الحوار ، ثم قال في صوت حلو لم ينسه صاحبنا قط ، ولم يذكره قط الا ضحك منه ورق له : "الله حكم بيني وبينك يوم القيامة ". قال ذلك في صوت يملؤه السأم والضجر ، ويملؤه العطف والحنان ايضاً. وآية ذلك انه بعد ان اتم الدرس واقبل الصبي ليلثم يده كما كان الطلاب يفعلون ، وضع يده على كتف الصبي ، وقال له في هدوء وحب: "شد حيلك الله يفتح عليك."
وعاد الصبي مبتهجاً بهذه الكلمات والدعوات ، فأنبأ بها اخاه وانتظر بها اخوه موعد الشاي . فلما اجتمع القوم الى شايهم قال للصبي مداعباً : قرر لنا "وعلامة الفعل قد". فامتنع الصبي حياء اول الامر ، ولكن الجماعة الحت عليه ، فأقبل يقرر مما سمع وما وعى وما قال ، والجماعة صامتة تسمع له ، حتى اذا فرغ نهض اليه ذلك الكهل الذي كان ينتظر الدرجة فقبل جبهته وهو يقول : "حصنتك بالحي القيوم الذي لا ينام."
واما الجماعة فاغرقت في الضحك . واما الصبي فاغرق في الرضا عن نفسه ، وبدأ منذ ذلك الوقت يعتقد انه اصبح طالباً بارعاً نجيباً.
وقوى هذا الرأي في نفسه ان زملاءه في درس النحو التفتوا اليه وجعلوا يستوقفونه بعد الدرس ، او يدنون منه قبل الدرس ، فيسألونه ويتحدثون اليه ، ثم يعرضون عليه ان يعدوا معه الدرس قبل الظهر. وقد اغراه هذا العرض فترك درس القطر ، وجعل يطلع مع زملائه هؤلاء يقرءون له وياخذون في التفسير ، وجعل هو يسبقهم الى هذا التفسير ويستبد به من دونهم ، فلا يقاومونه وانما يسمعون منه ويصغون اليه . وجعل ذلك يزيده غروراً الى غرور ، ويخيل اليه انه قد بدأ يصبح استاذاً.
واطردت حياته في ذلك العام متشابهة لا جديد فيها الا ما كان يفيده الصبي من العلم كلما امعن في الدرس ، وما كان يشعر به من الغرور اذا كان بين زملائه ، وما كان يُرد اليه من التواضع اذا كان بين اولئك الطلاب الكبار ، والا ما كان يفيده من العلم بشؤون الاساتذة والطلاب في الازهر لما كان يسمع من حديث زملائه واصدقاء اخيه عن اولئك وهؤلاء .
فلم يكن شيء من هذه الاحاديث ليحسن ظنه باولئك او هؤلاء ، وانما كان ظنه يزداد بهم سوءاً كلما مر عليه الوقت . فقد كان يسمع بين وحين ثناء بالذكاء والبراعة على هذا الشيح او ذاك من صغار العلماء وكبارهم ، ولكنه كان يسمع دائماً عيباً لاولئك وهؤلاء بالوان من النقائص التي تتصل بالخلق او تتصل بالسيرة او تتصل بصناعة العلم نفسها ، والتي كانت تثير في نفسه كثيراً من الغضب والازدراء وخيبة الامل .
ولم يكن يسلم من هذه العيوب احد . فاما هذا الشيخ فقد كان شديد الحقد على زملائه واقرانه ، شديد المكر بهم والكيد لهم ، يلقاهم مبتسماً فلا يكاد يفارقهم حتى يقول فيهم اشنع القول ويسعى بهم اقبح السعي. واما هذا الشيخ الاخر فقد كان رقيق الدين ، يظهر التقوى اذا كان في الازهر او بين اقرانه ، فاذا خلا الى نفسه والى شياطينه اغرق في اثم عظيم.
وكانت الغيبة والنميمة اشيع واشنع ما كان يُذكر من عيب الشيوخ. فكان الطلاب يذكرون سعي ذلك الشيخ بصديقه الحميم عند شيخ الازهر او عند الشيخ المفتي ، وكانوا يذكرون ان شيخ الازهر كان اذناً للنمامين ، وان الشيخ المفتي كان يترفع عن الاستماع لهم ويلقاهم بالزج القاسي العنيف.
وقد تحدث الطلاب الكبار ذات يوم بقصة عن جماعة من كبار الشيوخ سموهم يومئذ ، فزعموا ان هؤلاء الشيوخ لاحظوا انهم قد اسرفوا على انفسهم في الغيبة ، فأستعظموا ذلك وذكروا قول الله عز وجل : "ولا يغتب بعضكم بعضاً ليحب احدكم ان ياكل لحم اخيه ميتاً فكرهتموه"، فتناهوا عن هذه الخطيئة الكبيرة ، وتعاهدوا على ان من اخذ منهم في الغيبة فعليه ان يؤدي الى اصحابه عشرين قرشاً .
وقد كفوا عن الغيبة يوماً او بعض يوم ضناً بهذا المبلغ من النقد . وانهم لفي بعض حديثهم ، واذا شيخ يمر بهم فيلقي عليهم تحية ، ويمضي في طريقه. ولكنه لا يكاد يمضي حتى يخرج احدهم قطعة من الفضة فيدفعها الى اصحابه وياخذ في اغتياب هذا الشيخ.
فاما تحدث الطلاب كباراً وصغاراً بجهل شيوخهم وتورطهم في الوان الخطأ المضحك الذي كان بعضه يتصل بالفهم وبعضه يتصل بالقراءة ، فقد كان اكثر من ان يحصى واعظم من ان يقدر . ومن اجل هذا كان صاحبنا سيء الرأي في العلماء والطلاب جميعاً . وكان يرى ان الخير كل الخير في ان يجد ويجتهد ويحصل ما استطاع من العلم معرضاً عن مصادره التي كان يستقيه منها .
وازداد رايه سوءاً حين استقبل السنة الثالثة من حياته في الازهر ، فالتمس لنفسه استاذاً يقرأ في الفقه شرح مُلا مسكين على الكنز ، فُدل على استاذ معروف بعيد الذكر ظاهر المكانة في القضاء ، فذهب اليه وجلس في حلقته ، ولكنه لم يكد ينفق دقائق حتى احس حرجاً عظيماً وراي نفسه مضطراً الى ان يبذل جهداً شديداً لمقاومة الضحك . وذلك ان الشيخ رحمه الله قد كانت له لازمة غريبة ، كما كان يقول الازهريون . فلم يكن يقرأ جملة في الكتاب او يفسرها من عند نفسه الا قال هذه الجملة مرتين : "قال ايه ثم قال ايه”
يعيد ذلك مرات في الدقائق القليلة ، وصاحبنا يسمع له ويعنف على نفسه حتى لا يضحك فياتي منكراً من الامر.
وقد استطاع صاحبنا ان يضبط نفسه ، ولكنه لم يستطع ان يختلف الى درس الاستاذ اكثر من ثلاثة ايام ، لانه لم يجد عنده غناء ، وانما وجد عنده عناء ، لم يفد منه شيئاً ، وانما كان يكظم ضحكه كظماً عنيفاً ، ويكلف نفسه من ذلك ما لم تكن تطيق . والتمس غيره من الاساتذة الذين كانوا يقرءون هذا الكتاب ، فلم يجد عندهم الا هذه اللوازم التي كانت تختلف باختلافهم ، ولكنها كانت تدفع الغلام الى الضحك وتضطره الى ان يبذل في ضبط نفسه من الجهد ما كان يشغله احياناً عن الاستماع ، وقيل له في اثناء ذلك ان هذا الكتاب من كتب الفقه ليس بذي خطر ، وان استاذاً ممتازاً سموه له يقرأ كتاب الدرر ، والخير في ان تحضر درسه ، فهو من اذكى العلماء وابرع القضاة .
واستشار صاحبنا اخاه واصحاب اخيه فلم يردوه عن ذلك ، بل شجعوه عليه واوصوا به الشيخ . وقد رضى الغلام عن استاذه الجديد في دروسه الاولى ، فلم يكن يلتزم جملة بعينها او لفظاً بعينه او صوتاً بعينه ، ولم يكن يتردد في القراءة ولا في التفسير، وكان ذكاؤه واضحاً ، واتقانه للفقه متقناً ، وحسن تصرفه فيه لا يتعرض للشك .
وكان الاستاذ رشيقاً انيقاً حلو الصوت ممتازاً في حركته وفي لقائه للطلاب وحديثه اليهم . وكان معروفاً بالتجديد ، لا في العلم ولا في الرأي ، ولكن في السيرة. وكان كبار الطلاب يتحدثون بانه يلقي درسه اذا صبح ثم يمضي الى محكمته فيقضي فيها ، ثم يروح الى بيته فيطعم وينام . فاذا كان الليل خرج مع لذاته فذهب الى حيث لا ينبغي ان يذهب العلماء ، وسمع من الغناء ما لا ينبغي ان يسمع العلماء ، واقبل من اللذات على ما لا ينبغي ان يقبل عليه رجال الدين ، وكانوا يذكرون "الف ليلة وليلة". فيعجب الغلام لانه كان يعرف ان "الف ليلة وليلة" اسم كتاب طالما قرأ فيه ووجد في قراءته لذة ومتاعاً . ولكنهم كانوا يذكرون هذا الاسم على انه مكان يسمع فيه الغناء ، ويكون فيه اللهو ، وتطلب فيه بعض اللذات .
وكان الغلام يسمع عن شيخه هذه الاحاديث فلا يصدقها ولا يطمئن اليها ، ولكنه لم ينفق مع الشيخ اسابيع حتى احس منه تقصيراً في اعداد الدرس ، وقصوراً في تفسير النص ، وضيقاً باسئلة الطلاب ، بل احس منه اكثر من ذلك ، فقد ساله ذات يوم عن تفسير بعض ما كان يقول فلم يجبه الا بالشتم . وكان الشيخ ابعد الناس عن الشتم واشدهم عنه ترفعاً.
فلما قص الغلام على اخيه واصحابه من امر الشيخ ما راى ، انكروا ذلك واسفوا له ، وهمس بعضهم لبعض بان العلم والسهر في "الف ليلة وليلة" لا يجتمعان.
وكان حظ الغلام في النحو خيراً من حظه في الفقه ، فقد سمع القطر والشذور على الشيخ عبد الله دراز رحمه الله ، فوجد من ظرف الاستاذ وصوته العذب وبراعته في النحو ومهارته في رياضة الطلاب على مشكلاته ما زاده في النحو حباً.
لكن حظه في النحو لم يلبث ان ساء حين استؤنفت الدراسة في العام الجديد . فقد اخذ الغلام يسمع على الشيخ عبد الله دراز شرح ابن عقيل ,. وبينما الاستاذ وطلابه ماضون في درسهم ، راضون عن عملهم ، صدر الامر الى الاستاذ بالانتقال الى معهد الاسكندرية . فمانع في ذلك ما استطاع ، ومانع طلابه ما استطاعوا ، ولكن المشيخة لم تسمع له ولا لهم . فلم يجد بداً من انفاذ الامر . ولم ينس الغلام ذلك اليوم الذي ودع الاستاذ فيه طلاببه ، وانه ليبكي مخلصاً ، وانهم ليبكون مخلصين ويشيعونه باكين الى باب المسجد.
ثم اقيم مقام الشيخ، شيخ آخر ضرير ، وكان مشهوراُ بالذكاء الحاد والتفوق الظاهر والنبوغ الممتاز ، وكان لا يذكر الا اثنى عليه ذاكروه والسامعون لذكره بهذه الخصال . اقبل هذا الشيخ ، فاخذ الدرس من حيث تركه الشيخ عبد الله دراز . وكانت حلقة الشيخ عند الله دراز عظيمة تملا رقعتها القبة من مسجد محمد بك ابي الذهب. فلما خلفه هذا الشيخ ازدادت هذه الحلقة ضخامة واتساعاً حتى اكتظ بها المكان . القي الشيخ درسه الاول فرضي عنه الطلاب ، ولكنهم لم يجدوا عنده وداعة استاذهم القديم ولا عذوبة صوته . ثم القى درسه الثاني والثالث ، واذا الطلاب ينكرون منه رضاه عن نفسه واعجابه بها ، وثقته بما كان يقول ، وغضبه الحاد على مقاطعيه .
ولم يكد يتقدم في درسه الرابع حتى كانت بينه وبين صاحبنا قصة صرفت الغلام عن النحو صرفاً . كان الشيخ يفسر قول تأبط شراً:
فابتُ الى فهم وما كدت آثبا وكم مثلها فارقته وهي تصفر
فلما وصل الى قرله "تصفر" اقل : ان العرب كانت اذا اشتدت على احدهم ازمة او محنة وضعوا اصابعهم في افواههم ونفخوا فيها ، فكان لها صفير يسمع .
قال الغلام للشيخ : واذن فما مرجع الضمير في قوله "وهي تصفر" وفي قوله"وكم مثلها فارقتها؟" قال الشيخ مرجعه "فهم" ايها الغبي. قال الغلام: فانه قد عاد الى فهم والبيت لا يستقيم على هذا التفسير. قال الشيخ : فانك وقح وقد كان يكفي ان تكون غبياً . قال الغلام : ولكن هذا لا يدل على مرجع الضمير. فسكت الشيخ لحظة ثم قال: "انصرفوا ، فلن استطيع ان اقرأ وفيكم هذا الوقح."
ونهض الشيخ ، وقام الغلام ، وقد كاد الطلاب يبطشون به لولا ان حماه زملاؤه.
ولم يعد الغلام الى درس النحو ، بل لم يحضر الغلام بعد ذلك درساً في النحو ، بل ذهب من غده الى درس كان يلقيه استاذ معروف من اهل الشرقية . وكان يقرأ شرح الاشموني ، ولكنه لم يتم الاستماع للدرس. مضى الشيخ يقرأ ويفسر ، وسأله الغلام في بعض الشيئ ، فرد عليه الشيخ بما لم يقنعه . فاعاد السؤال ، فغضب الشيخ وامره بالانصراف. فتوسط بعض اصدقائه عند الشيخ يستعطفونه ، فازداد غضب الشيخ وابى ان يمضي في الدرس ختى يقوم هذا الغلام ومعه اصدقائه ,. ولم يكن لهم بد من ان ينصرفوا.
وذهب الغلام من غده مع اصحابه الى حلقة اخرى كان يُقرا فيها شرح الاشموني ، يقرؤه استاذ مشهور من اساتذة الشرقية ايضاً . فوقف الغلام على الحلقة لحظة لا تتجاوز الدقائق الخمس ، ولكنه سمع فيها هذه اللزمة يعيدها الشيخ كلما انتقل من جملة الى جملة "اخص على بلدي". فضحك الغلام وضحك اصدقاؤه وانصرفوا . وازمع الغلام وصديق له ان يدرسا النحو مستقلين ، وان يدرساه في مصادره الاولى ، فقرآ كتاب المفصل للزمخشري ، ثم كتاب سيبويه ، ولكن هذه قصة اخرى.
ولم يكن حظه في المنطق خيراً من حظه في الفقه والنحو . لقد احب المنطق حباً شديداً حين كان يسمع شرح السيد على ايساغوجي من استاذه ذلك الشاب في العام الماضي. فاما في هذا العام فقد جلس لامثاله من اوساط الطلاب علم من اعلام الازهر الشريف ، وامام من ائمة المنطق والفلسفة فيه ، وكان معروفاً بين كبار الطلاب بهذا الذكاء الظاهر الذي يخدع ولا يغني شيئاً ، وكان معروفاً بهذه الفصاحة التي تبهر الاذن ولا تبلغ العقل . وكان يؤثر عنه انه كان يقول "مما من الله علي به اني استطيع ان اتكلم ساعتين فلا يفهم احد عني شيئاً ولا افهم انا عن نفسي شيئاً . " كان يرى ذلك مزية وفخراً . ولكن لم يكن بد للطالب الذي يقدر نفسه من ان يجلس اليه ويسمع منه . وقد جلس للطلاب بعد صلاة المغرب يقرأ لهم شرح الخبيصي على تهذيب المنطق . وذهب اليه صاحبنا وسمع منه درساً ودرساً ، وكانت حلقته عظيمة حقاً تكتظ بها القبة في جامع محمد بك . وكان الغلام يسبق صلاة المغرب فيجلس في اقرب مكان من كرسي الاستاذ . وكان الاستاذ جهوري الصوت قد احتفظ بلهجة الصعيد كاملة . وكان شديد النشاط كثير الحركة . وكان اذا ساله طالب رد عليه ساخراً منه ، فان الح الطالب في السؤال ثار هو به وجعل يقول له في حدة : "اسكت ياخاسر ، اسكت ياخنزير!" وكان يفخم الخاء في الكلمتين الى اقصى ما يستطيع فيه ان يبلغ من التفخيم .
وقد استقام للشيخ وللطلاب امرهم حتى اتمموا قسم التصورات . فلما بلغوا في كتابهم المقصد الثاني في التقصديقات لقى الغلام من نفسه ومن شيخه بلاء عظيماً ، فاضطر الى ان يختار له من الغد مكاناً بعيداً عن الشيخ ، وما زال يتاخر يوماً بعد يوم في مجلسه حتى بلغ باب القبة ، فحرج منه ذات ليلو ، ولم يدخله بعد ذلك.
لقى الغلام بلاء من نفسه لم يذكره قط الا ضحك منه ضحكاً شديداً ، واضحك منه اخاه واصدقائه جميعاً . فقد جلس الشيخ على كرسيه واخذ في القراءة ، فقال : "المقصد الثاني في التصديقات" يقلقل القاف ويفخم الصاد ، ويمد الالفات والياءات مداً متوسطاً ، ثم يعيد هذه الكلمات نفسها فيقلقل القاف ويفخم الصاد ويطيل مد الالف والياء في الثاني ، ولكنه لا يقول " في التصديقات" وانما يقول "في مين؟" فلا يرد عليه احد . فيرد على نفسه ويقول "في التصديقات" ثم يعيد الكلمة نفسها على هذا النحو نفسه ، فاذا انتهى الى قوله "في مين" ولم يرد عليه احد ، ضرب بظهر يده في جبهة الغلام وهو يقول : "ردوا ياغنم ، ردوا يابهائم ، ردوا ياخنازير!". يفخم الغين والخاء الى اقصى ما يستطيع فمه ان يبلغ من التفخيم ، فيقول الطلاب جميعاً : "في التصديقات."
لقى الغلام من نفسه عناء شديداً ، فقد كان هذا كله خليقاً ان يضحكه ، وكان يخاف ان يضحك بين يدي الاستاذ . ولقى من شيخه بلاءاً عظيماً بهذه الضربات التي كانت تتوالى على جبهته بين حين وحين. ومهما يكن من شيء فقد تحول الغلام عن هذا الدرس ولم يتجاوز بالمنظق عند هذا الشيخ باب القضايا .
تحول عن هذا الدرس في اثناء العام ، وقرر ان يحضر مكانه درساً في التوحيد كان يلقيه شيخ جديد حديث الظفر بدرجة العالمية . وكان اصدقاؤه من كبار الطلاب يذكرونه بالظرف الشديد والذكاء المتوسط وحلاوة الصوت وحسن الالقاء ، ويقولون: ان علمه يخدع من حدثه او سمع عنه ، فاذا تعمقه لم يجد عنده شيئاً . وكان يقرأ شرح الخريدة ومتنها للدردير. فسمع الغلام منه درساً واعجب بصوته والقائه وظرفه ، وجعل ينتظر ان يعجب بعلمه وفنقلته . ولكن الشيخ صُرف عن الدرس لانه نقل من القاهرة وارسل الى مكان بعيد تولى فيه منصب القضاء ، فلم يتح للغلام ان يعلم علمه ، ولا ان يقضي في امره بشيء الا انه كان لبقاً ظريفاً حلو الصوت عذب الحديث .
واذاً فقد ضاعت السنة في حقيقة الامر على الغلام ، ولم يحصل فيها من العلم شيئاً جديداً ، الا ما كان يقرؤه في الكتب ويسمعه من اولئك الطلاب الكبار وهم يطالعون او يتناظرون .
فلما عاد الى الازهر عاد اليه ضيق النفس به ، شديد الزهد فيه ، حائراً في امره لا يدري ماذا يصنع : لا يستطيع ان يقيم في الريف ، وماذا يفعل في الريف ! ولا يجد نفعاً من اقامته في القاهرة واختلافه الى الشيوخ .
ولادته
ولد طه حسين في الرابع عشر من نوفمبر سنة 1889 في عزبة "الكيلو" التي تقع على مسافة كيلو متر من "مغاغة" بمحافظة المنيا بالصعيد الأوسط، وكان والده حسين عليّ موظفًا صغيرًا رقيق الحال في شركة السكر، يعول ثلاثة عشر ولدًا سابعهم طه حسين.
ضاع بصره في السادسة من عمره بعد اصابته بالرمد ، نتيجة الفقر والجهل، وحفظ القرآن الكريم قبل أن يغادر قريته إلى الأزهر، وتتلمذ على الإمام محمد عبده. طرد من الأزهر، ولجأ إلى الجامعة المصرية في العام 1908 ودرس الحضارة المصرية القديمة والإسلامية والجغرافيا والتاريخ والفلك والفلسفة والأدب وعكف علي إنجاز رسالة الدكتوراه التي نوقشت في ١٥ مايو ١٩١٤التي حصل منها على درجة الدكتوراه الأولى في الآداب عن أديبه الأثير: أبي العلاء المعري.ثم سافر إلي باريس ملتحقًا بجامعة مونبلييه وفي عام ١٩١٥ أتم البعثة.
وحصل علي دكتوراه في علم الاجتماع عام ١٩١٩ ثم - في نفس العام - حصل علي دراسات عليا في اللغة اللاتينية والروماني وعين أستاذًا لتاريخ الأدب العربي
عاد من فرنسا سنة 1918 بعد أن فرغ من رسالته عن ابن خلدون، وعمل أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني إلى سنة 1925 حيث تم تعيينه أستاذًا في قسم اللغة العربية مع تحول الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية. وما لبث أن أصدر كتابه "في الشعر الجاهلى" الذي أحدث عواصف من ردود الفعل المعارضة.
تواصلت عواصف التجديد حوله، في مؤلفاته المتتابعة، طوال مسيرته التي لم تفقد توهج جذوتها العقلانية قط، سواء حين أصبح عميدًا لكلية الآداب سنة 1930، وحين رفض الموافقة على منح الدكتوراه الفخرية لكبار السياسيين سنة 1932، وحين واجه هجوم أنصار الحكم الاستبدادي في البرلمان، الأمر الذي أدى إلى طرده من الجامعة التي لم يعد إليها إلا بعد سقوط حكومة صدقي باشا.
لم يكف عن حلمه بمستقبل الثقافة أو انحيازه إلى المعذبين في الأرض في الأربعينات التي انتهت بتعيينه وزيرًا للمعارف في الوزارة الوفدية سنة 1950 فوجد الفرصة سانحة لتطبيق شعاره الأثير "التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن".
وظل طه حسين على جذريته بعد أن انصرف إلى الإنتاج الفكري، وظل يكتب في عهد الثورة المصرية، إلى أن توفي عبد الناصر وقامت حرب أكتوبر التي توفي بعد قيامها في الشهر نفسه سنة 1973.
وتحفته "الأيام" أثر إبداعي من آثار العواصف التي أثارها كتابه "في الشعر الجاهلي" فقد بدأ في كتابتها بعد حوالي عام من بداية العاصفة، كما لو كان يستعين على الحاضر بالماضي الذي يدفع إلى المستقبل. ويبدو أن حدة الهجوم عليه دفعته إلى استبطان حياة الصبا القاسية، ووضعها موضع المسائلة، ليستمد من معجزته الخاصة التي قاوم بها العمى والجهل في الماضي القدرة على مواجهة عواصف الحاضر.
ولذلك كانت "الأيام" طرازًا فريدًا من السيرة التي تستجلي بها الأنا حياتها في الماضي لتستقطر منها ماتقاوم به تحديات الحاضر، حالمة بالمستقبل الواعد الذي يخلو من عقبات الماضي وتحديات الحاضر على السواء، والعلاقة بين الماضي المستعاد في هذه السيرة الذاتية والحاضر الذي يحدد اتجاه فعل الاستعادة أشبه بالعلاقة بين الأصل والمرآة، الأصل الذي هو حاضر متوتر يبحث عن توازنه بتذكر ماضيه، فيستدعيه إلى وعي الكتابة كي يتطلع فيه كما تتطلع الذات إلى نفسها في مرآة، باحثة عن لحظة من لحظات اكتمال المعرفية الذاتية التي تستعيد بها توازنها في الحاضر الذي أضرّ بها.
ونتيجة ذلك الغوص عميقًا في ماضي الذات بمايجعل الخاص سبيلا إلى العام، والذاتي طريقًا إلى الإنساني، والمحلي وجهًا آخر من العالمي، فالإبداع الأصيل في "الأيام" ينطوي على معنى الأمثولة الذاتية التي تتحول إلى مثال حي لقدرة الإنسان على صنع المعجزة التي تحرره من قيود الضرورة والتخلف والجهل والظلم، بحثًا عن أفق واعد من الحرية والتقدم والعلم والعدل. وهي القيم التي تجسّدها "الأيام" إبداعًا خالصًا في لغة تتميز بثرائها الأسلوبي النادر الذي جعل منها علامة فريدة من علامات الأدب العربي الحديث. ولعل هذه السمة هي التي ستجعل من طه حسين رمزاً مؤثراً فيما بعد على مسيرة الفكر العربي الحديث، بالرغم من أنه لم يتركاً أثراً فكرياً أو فلسفياً محضاً، إلا إذا استثنينا بالطبع قراءاته الإشكالية للتراث الأدبي، وهو ما يمكن تصنيفه دائماً تحت باب النقد.
تجدر الإشارة إلى أنه نشر معظم كتبه لدى تلميذه في كلية الاداب بهيج عثمان اللبناني صاحب دار العلم للملايين في بيروت.
مؤلفاته
الفتنة الكبرى عثمان.
الفتنة الكبرى علي وبنوه.
في الأدب الجاهلي.
الأيام.
دعاء الكروان.
شجرة السعادة.
المعذبون في الأرض.
على هامش السيرة.
حديث الأربعاء.
من حديث الشعر والنثر.
مستقبل الثقافة في مصر.
أديب
وفاته
توفي في 29 أكتوبر 1973 عن عمر يناهز 84 عاماً.
ولد طه حسين عام 1889، وعاش طفولته الباكرة في احدى قرى الريف المصري. ثم انتقل إلى الأزهر للدراسة، ولم يوفق فيه، فتحول إلى الجامعة المصرية، وحصل منها على الشهادة الجامعية ، ثم دفعه طموحه لاتمام دراساته العليا في باريس، وبالرغم من اعتراضات مجلس البعثات الكثيرة، الا انه اعاد تقديم طلبه ثلاث مرات، ونجح في نهاية المطاف في الحصول على شهادة الدكتوراه في باريس. بعد عودته لمصر ، أنتج اعمالاً كثيرة قيمة منها على هامش السيرة، والايام، ومستقبل الثقافة في مصر، وغيرها. وهو يعتبر بحق "عميد الأدب العربي" نظراً لتأثيره الواضح على الثقافة المصرية والعربية.
وقد نشر الجزء الاول من الايام في مقالات متتالية في اعداد الهلال عام 1926 ، وهو يُعد من نتاج ذات المرحلة التي كتب خلالها : في الشعر الجاهلي. وتميزت هذه الفترة من حياة الاديب الكبير - رحمه الله - بسخطه الواضح على تقاليد مجتمعه وعاداته الشائعة في كتاباته . ومن المؤكد ان لهذه المرارة دوافعها : فطه حسين فقد البصر صغيراً بسبب جهل اسرته باسس الرعاية الصحية. وهي خسارة فاحشة لا يمكن تعويضها . وقد رفض المجتمع المصري المحافظ الكثير من ارائه في موضوعات مختلفة حين رجوعه من فرنسا كذلك.
لهذه الاسباب وغيرها ، يعتبر الايام سيرة ذاتية تعبر عن سخط كاتبها بواقعه الاجتماعي ، خاصة بعد ان عرف الحياة في مجتمع غربي متطور . الاجزاء التي اخترناها هنا تصف مرحلة مهمة في حياة طه حسين الفكرية : اذ ترسم صورة حزينة لمساعيه للدراسة في الازهر، موضحةً اعتراضاته على نظام التعليم الشائع فيه آنذاك، واسباب عدم نجاحه في الحصول على الشهادة التي نجح من هو اقل منه شأناً وعلماً في امتلاكها.
طه حسين (1889-1973) واحد من أهم -إن لم يكن أهم- المفكرين العرب في القرن العشرين.
وترجع أهميته إلى الأدوار الجذرية المتعددة التي قام بها في مجالات متعددة, أسهمت في الانتقال بالإنسان العربي من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية, ومن الظلم إلى العدل, ومن التخلف إلى التقدم, ومن ثقافة الإظلام إلى ثقافة الاستنارة, فهو أجسر دعاة العقلانية في الفكر,
والاستقلال في الرأى, والابتكار في الإبداع, والتحرر في البحث الأدبي, والتمرد على التقاليد الجامدة.
وهو أول من كتب عن (مستقبل الثقافة) بالحماسة التي كتب بها عن (المعذبين في الأرض), وبالشجاعة التي تحرر بها من ثوابت النقل البالية, فاستبدل الاجتهاد بالتقليد, والابتداع بالاتباع, وأقام الدنيا ولم يقعدها حين أصدر كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي كان بمثابة الاستهلال الجذري للعقل العربي المحدث والحديث في آن.
ولد طه حسين في الرابع عشر من نوفمبر سنة 1889 في عزبة (الكيلو) التي تقع على مسافة كيلومتر من (مغاغة) بمحافظة المنيا بالصعيد الأوسط. وكان والده حسين عليّ موظفًا صغيرًا, رقيق الحال, في شركة السكر, يعول ثلاثة عشر ولدًا, سابعهم طه حسين.
ضاع بصره في السادسة من عمره نتيجة الفقر والجهل, وحفظ القرآن الكريم قبل أن يغادر قريته إلى الأزهر طلبًا للعلم. وتتلمذ على الإمام محمد عبده الذي علمه التمرد على طرائق الاتباعيين من مشايخ الأزهر, فانتهى به الأمر إلى الطرد من الأزهر, واللجوء إلى الجامعة المصرية الوليدة التي حصل منها على درجة الدكتوراه الأولى في الآداب سنة 1914 عن أديبه الأثير: أبي العلاء المعري. ولم تمر أطروحته من غير ضجة واتهام من المجموعات التقليدية حتى بعد أن سافر إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه الفرنسية.
وعاد من فرنسا سنة 1919 بعد أن فرغ من رسالته عن ابن خلدون, وعمل أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني إلى سنة 1925, حيث تم تعيينه أستاذًا في قسم اللغة العربية مع تحول الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية. وما لبث أن أصدر كتابه (في الشعر الجاهلى) الذي أحدث عواصف من ردود الفعل المعارضة, وأسهم في الانتقال بمناهج البحث الأدبي والتاريخي نقلة كبيرة فيما يتصل بتأكيد حرية العقل الجامعي في الاجتهاد.
وظل طه حسين يثير عواصف التجديد حوله, في مؤلفاته المتتابعة ومقالاته المتلاحقة وإبداعاته المتدافعة, طوال مسيرته التنويرية التي لم تفقد توهج جذوتها العقلانية قط, سواء حين أصبح عميدًا لكلية الآداب سنة 1930, وحين رفض الموافقة على منح الدكتوراه الفخرية لكبار السياسيين سنة 1932, وحين واجه هجوم أنصار الحكم الاستبدادي في البرلمان, الأمر الذي أدى إلى طرده من الجامعة التي لم يعد إليها إلا بعد سقوط حكومة صدقي باشا. ولم يكف عن حلمه بمستقبل الثقافة أو انحيازه إلى المعذبين في الأرض في الأربعينات التي انتهت بتعيينه وزيرًا للمعارف في الوزارة الوفدية سنة 1950, فوجد الفرصة سانحة لتطبيق شعاره الأثير (التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن).
وظل طه حسين على جذريته بعد أن انصرف إلى الإنتاج الفكري, وظل يكتب في عهد الثورة المصرية, إلى أن توفي عبد الناصر, وقامت حرب أكتوبر التي توفي بعد قيامها في الشهر نفسه سنة 1973.
وتحفته (الأيام) أثر إبداعي من آثار العواصف التي أثارها كتابه (في الشعر الجاهلي), فقد بدأ في كتابتها بعد حوالي عام من بداية العاصفة, كما لو كان يستعين على الحاضر بالماضي الذي يدفع إلى المستقبل. ويبدو أن حدة الهجوم عليه دفعته إلى استبطان حياة الصبا القاسية, ووضعها موضع المساءلة, ليستمد من معجزته الخاصة التي قاوم بها العمى والجهل في الماضي القدرة على مواجهة عواصف الحاضر.
ولذلك كانت (الأيام) طرازًا فريدًا من السيرة التي تستجلي بها الأنا حياتها في الماضي لتستقطر منها ما تقاوم به تحديات الحاضر, حالمة بالمستقبل الواعد الذي يخلو من عقبات الماضي وتحديات الحاضر على السواء. والعلاقة بين الماضي المستعاد في هذه السيرة الذاتية والحاضر الذي يحدد اتجاه فعل الاستعادة أشبه بالعلاقة بين الأصل والمرآة, الأصل الذي هو حاضر متوتر يبحث عن توازنه بتذكر ماضيه, فيستدعيه إلى وعي الكتابة كي يتطلع فيه كما تتطلع الذات إلى نفسها في مرآة, باحثة عن لحظة من لحظات اكتمال المعرفية الذاتية التي تستعيد بها توازنها في الحاضر الذي أضرّ بها.
ونتيجة ذلك الغوص عميقًا في ماضي الذات بما يجعل الخاص سبيلا إلى العام, والذاتي طريقًا إلى الإنساني, والمحلي وجهًا آخر من العالمي, فالإبداع الأصيل في (الأيام) ينطوي على معنى الأمثولة الذاتية التي تتحول إلى مثال حي لقدرة الإنسان على صنع المعجزة التي تحرره من قيود الضرورة والتخلف والجهل والظلم, بحثًا عن أفق واعد من الحرية والتقدم والعلم والعدل. وهي القيم التي تجسّدها (الأيام) إبداعًا خالصًا في لغة تتميز بثرائها الأسلوبي النادر الذي جعل منها علامة فريدة من علامات الأدب العربي الحديث.
ذكريات محمود البدوى وطه حسين
اعداد: على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى
جاء محمود البدوى من الصعيد فى العشرينات من القرن العشرين بعد حصوله على الشهادة الإبتدائية ، جاء إلى القاهرة ، والتحق بالمدرسة السعيدية الثانوية .. ويقول :
" والمدرسون فى ذلك الوقت حبهم للأدب واضح والاطلاع والقراءة مستمرة .. وكانوا يضربون لنا المثل بشعر شوقى .. ونكت المازنى وفكاهاته وسخريته المطلقة .. وبعضهم كان يحب .. مصطفى صادق الرافعى لأسلوبه البليغ إلى درجة التمجيد .. وليس هذا أستاذ أدب أو عربى .. ولكن يقطع الدراسة فى حصة الجغرافيا والطبيعة .. ويحدثنا عن خبر هؤلاء الأعلام (1) .
وكان الشيخ شتا .. وهو شيخ مع لبسه البدلة .. يجعلنا ننتقد أساليب الكتاب المعاصرين .. وانتقدنا أسلوب طه حسين .. وأنه كثيرا ما يطيل حيث يتطلب الأمر الإيجاز ويكثر من المترادفات ، ويستعمل لفظة غليظ فى اسراف .. وتبسم الشيخ شتا .. وقال لنا إن لفظة غليظ موجودة فى القرآن " عذاب غليظ " فقلنا له إن الوصف فى القرآن هو أدق وأبلغ موضع .. ولكن الأمر يختلف مع طه حسين .. لذلك اللفظ .. (2) . وأنه كثير المترادفات والجمل الاعتراضية لأنه كان يملى والذى يملى غير الذى يكتب بيده (3) .
***
نجح محمود البدوى فى امتحان البكالوريا والتحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إبان عمادة الدكتور طه حسين لها .. ويقول :
" وفى دراسة قيمة عن الأسلوب بالجامعة المصرية فى أوائل مراحل تكوينها ، سألنا الأستاذ ، ولا داعى لذكر اسمه وقد نسيته .. لأنه كان يتملق طه حسين .. وكان طه حسين وقتها عميدا لكلية الآداب بالجامعة ..
سألنا الأستاذ بعد استعراضه لكلمة " بوفون " الخالدة .. " الأسلوب هو الكاتب " .
سألنا عن أجمل الأساليب فى الكتاب المعاصرين .. وكانت الغالبية من الطلاب خارجة من معطف " المنفلوطى " وعباءة الزيات " فقلنا المنفلوطى والزيات .. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى .. وظهر على وجهه الامتعاض وهو يسأل :
ـ وطه حسين ..؟
فأجبنا .. بأننا لم نقرأ له بالدرجة التى تجعلنا نحكم على اسلوبه ، وفى إجابتنا كل الصدق .. فقد كان المنفلوطى .. والزيات .. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى .. هم بلغاء العصر فى نظرنا وأسلوبهم فى التعبير هو أجمل وأرق الأساليب.
ويقول البدوى فى حوار معه نشر بصيفة الجمهورية فى 25|12|1975 " تأثرت بالرائد طه حسين .. أقدس فكره " .
***
ولما صدرت مجلة الرسالة ، وانتقل البدوى من السويس للعمل بمقر وزارة المالية فى القاهرة .. يقول :
" كان هناك ثالوث منا نحن الشباب يكتب فى المجلة ويعتز بها ويتردد عليها يوميا فى فترة ما .. الدكتور حسن حبشى والأستاذ فتحى مرسى وأنا نكتب المقال والقصة والشعر (5) والزيات كان يعطى كبار كتابنا فى ذلك الوقت " العقاد " و " طه حسين " خمس جنيهات ثمنا للمقالة (6) .
وفى 25 مارس 1953 تأسس نادى القصة فى مصر وتولى رئاسته الدكتور طه حسين ، والأستاذ الأديب يوسف السباعى سكرتير النادى وكان مقر النادى فى ذلك الوقـت فى ميـدان التحرير .
ويقول البدوى :
" كان استاذنا توفيق الحكيم يحضر بعصاه وغطاء رأسه وعلى وجهه الصمت والتأمل ، كما كان يحضر فريد أبو حديد .. ويحيى حقى .. واحسان عبد القدوس صاحب فكرة النادى ، وهو الذى عندما راودته الفكرة عرضها على يوسف السباعى فنفذها هذا سريعا بطريقته التى لايشوبها التردد " .
" حملت معى إلى نادى القصة ذات مساء مجموعة قصص صدرت لى حديثا " حدث ذات ليلة " (7) وكان فى النادى طه حسين .. وتوفيق الحكيم .. ويوسف السباعى .. وعبد الحميد السحار .. وغراب .. فأهديت نسخة إلى طه حسين ومثلها إلى توفيق الحكيم .. وتركت الثلاث نسخ الباقية على مكتب يوسف السباعى .
وفى الأسبوع التالى .. جاء الدكتور طه إلى النادى وسلمت عليه مع المسلمين ، وبعد أن استراح قليلا أخذ يتحدث عن قصص المجموعة .. ويلخص كل قصة فى ايجاز فيه كل اللمحات الإنسانية .. مع التركيز على لب القصة ومحورها .. وقد شكرته فى خجل شديد .. وأنا مذهول من هذه الذاكرة الفذة .. فقد كان يسرد وقائع نسيتها وأنا كاتبها .
ولما صدرت لى " مجموعة العربة الأخيرة "( رأى غراب (9) أن أهديها للدكتور أيضا .. فأهديتها له .. وحمل إلىّ أمين فى نفس الأسبوع كتاب " الفتنة الكبرى " للدكتور ردا على هديتى .
وتحدث الدكتور طه بعد ذلك بسنوات فى الإذاعة عن بعض الأدباء وكتاب القصة الجدد ولم أسمعه .. وحدثنى من سمعه أنه عندما أراد أن يذكر اسمى .. كان قد نسيه .. فقال محمود ال .. ال.. البدوى ونطق البدوى بعد ثوان من التوقف .. وكان لقائى الأول مع طه حسين فى النادى كما أسلفت .. واللقاء الأخير فى بيته عندما مرض ، ورأى المرحوم يوسف السباعى أن يجتمع مجلس إدارة النادى فى بيت الدكتور بالهرم ، وكان ذلك فى آخر أيامه رحمه الله (10) " .
وحينما حلت الذكرى السابعة على وفاة طه حسين .. يقول البدوى :
" طه حسين هو أول من فتح عيوننا على الدراسة المنهجية العميقة التى تعرف جيدا كيف تدرس بيئة الشاعر وحياته ومن اختلط ومن تأثر بهم ..
ومثل هذه الدراسة هى الدراسة الحقيقية للأديب الشاعر .
وكان كتابه " الأيام " قمة من ناحية السرد الذاتى للحياة الشخصية ، وإن كنت أفضل لو كان كتبه بضمير المتكلم المباشر ، أى بلسان الراوى ، فيذكر :
أنا فعلت ، أنا عشت ، أنا انتقلت
بدل قوله :
كان صاحبك يا ابنتى ..
لأن هذه الطريقة التى استخدمها أفقدت الكتاب ما يقرب من نصف قوته (11) " .
(1) حوار مع محمود البدوى نشر فى مجلة الكواكب المصرية 26|11|1985
(2) محمود البدوى فى " ذكريات مطوية " ـ مجلة الثقافة المصرية .. العدد 93 يونية 1981
(3) ص . الرياض 7|10|1984
(4) محمود البدوى فى " ذكريات مطوية " ـ م . الثقافة المصرية .. العدد 93 يونية 1981
(5) محمود البدوى فى " ذكرياتى فى الأدب والحياة " ـ م . الثقافة المصرية .. العدد 49 أكنوبر 1977
(6) حوار مع محمود البدوى نشر فى مجلة الكواكب المصرية 26|11|1985
(7) كتاب " حدث ذات ليلة " الطبعة الأولى 1953 دار مصر للطباعة ـ الطبعة الثانية 1965 الدار القومية للطباعة والنشر
( كتاب " العربة الأخيرة " الطبعة الأولى 1948 مكتبة مصر ومطبعتها ـ الطبعة الثانية 1960 الكتاب الذهبى
(9) أمين يوسف غراب عضو نادى القصة وكان شديد الاتصال بالدكتور طه حسين
(10) محمود البدوى فى " ذكريات مطوية " م . الثقافة المصرية .. العدد 76 يناير 1980
(11) حوار مع محمود البدوى ـ ص . المساء المصرية 1|9|1980
السيد الأستاذ رئيس التحرير مع خالص الشكر والتحية
على عبد اللطيف - القاهرة
نماذج من أعمال الكاتب
مع أبي العلاء في سجنه
مع المتنبي
جنة الشوك
من الأيام
حافظ وشوقي
الفتنة الكبرى-عثمان
على هامش السيرة2
على هامش السيرة1
نظام الأثينيين
الفتنة الكبرى-علي وبنوه
في الشعر الجاهلي
ألوان
حديث الأربعاء1
حديث الأربعاء2
حديث الأربعاء3
حديث المساء
مرآة الإسلام
من الأيام
واقبل صاحبنا على دروسه في الازهر وغير الازهر من المساجد . فأمعن في الفقه والنحو والمنطق ، واخذ يحسن "الفنقلة" التي كان يتنافس فيها البارعون من طلاب العلم في الأزهر على المنهج القديم ، ويسخر منها المسرفون في التجديد ، ولا يُعرض عنها المجددون العتدلون . واذا هو يدرس شرح الطائي على الكنز مصبحاً ، والازهرية مع الظهر ، وشرح السيد الجرجاني على ايساغوجي ممسياً . وكان يحضر الدرس الاول في الازهر ، والدرس الثاني في مسجد محمد بك ابي الذهب ، والدرس الثالث في مسجد الشيح العدوي على استاذ من سلالة الشيخ العدوي نفسه . وربما الم بدرس من دروس الضحى كان يُقرأ فيه كتاب قطر الندى لابن هشام تعجلاً للتعمق في النحو والفراغ من كتب المبتدئين والوصول الى شرح ابن عقيل على الالفية . ولكنه لم يكن يواظب على هذا الدرس . كان يستجهل الشيخ ، ويرى في "فنقلة" الشيح عبد المجيد الشاذلي حول الازهرية وحاشية العطار ما يكفيه ويرضيه.
وقد بقيت في نفسه آثار لا تمحى من درس الازهرية هذا ، ففيه تعلم "الفنقلة" حقاً ، وكان اول ذلك هذا الكلام الكثير والجدال العقيم حول قول المؤلف "وعلامة الفعل قد" ، فقد اتقن صاحبنا ما اثير حول هذه الجملة البريئة من الاعتراضات والاجوبة ، واتعب شيخه جدالاً وحواراً حتى سكت الشيخ فجأة اثناء هذا الحوار ، ثم قال في صوت حلو لم ينسه صاحبنا قط ، ولم يذكره قط الا ضحك منه ورق له : "الله حكم بيني وبينك يوم القيامة ". قال ذلك في صوت يملؤه السأم والضجر ، ويملؤه العطف والحنان ايضاً. وآية ذلك انه بعد ان اتم الدرس واقبل الصبي ليلثم يده كما كان الطلاب يفعلون ، وضع يده على كتف الصبي ، وقال له في هدوء وحب: "شد حيلك الله يفتح عليك."
وعاد الصبي مبتهجاً بهذه الكلمات والدعوات ، فأنبأ بها اخاه وانتظر بها اخوه موعد الشاي . فلما اجتمع القوم الى شايهم قال للصبي مداعباً : قرر لنا "وعلامة الفعل قد". فامتنع الصبي حياء اول الامر ، ولكن الجماعة الحت عليه ، فأقبل يقرر مما سمع وما وعى وما قال ، والجماعة صامتة تسمع له ، حتى اذا فرغ نهض اليه ذلك الكهل الذي كان ينتظر الدرجة فقبل جبهته وهو يقول : "حصنتك بالحي القيوم الذي لا ينام."
واما الجماعة فاغرقت في الضحك . واما الصبي فاغرق في الرضا عن نفسه ، وبدأ منذ ذلك الوقت يعتقد انه اصبح طالباً بارعاً نجيباً.
وقوى هذا الرأي في نفسه ان زملاءه في درس النحو التفتوا اليه وجعلوا يستوقفونه بعد الدرس ، او يدنون منه قبل الدرس ، فيسألونه ويتحدثون اليه ، ثم يعرضون عليه ان يعدوا معه الدرس قبل الظهر. وقد اغراه هذا العرض فترك درس القطر ، وجعل يطلع مع زملائه هؤلاء يقرءون له وياخذون في التفسير ، وجعل هو يسبقهم الى هذا التفسير ويستبد به من دونهم ، فلا يقاومونه وانما يسمعون منه ويصغون اليه . وجعل ذلك يزيده غروراً الى غرور ، ويخيل اليه انه قد بدأ يصبح استاذاً.
واطردت حياته في ذلك العام متشابهة لا جديد فيها الا ما كان يفيده الصبي من العلم كلما امعن في الدرس ، وما كان يشعر به من الغرور اذا كان بين زملائه ، وما كان يُرد اليه من التواضع اذا كان بين اولئك الطلاب الكبار ، والا ما كان يفيده من العلم بشؤون الاساتذة والطلاب في الازهر لما كان يسمع من حديث زملائه واصدقاء اخيه عن اولئك وهؤلاء .
فلم يكن شيء من هذه الاحاديث ليحسن ظنه باولئك او هؤلاء ، وانما كان ظنه يزداد بهم سوءاً كلما مر عليه الوقت . فقد كان يسمع بين وحين ثناء بالذكاء والبراعة على هذا الشيح او ذاك من صغار العلماء وكبارهم ، ولكنه كان يسمع دائماً عيباً لاولئك وهؤلاء بالوان من النقائص التي تتصل بالخلق او تتصل بالسيرة او تتصل بصناعة العلم نفسها ، والتي كانت تثير في نفسه كثيراً من الغضب والازدراء وخيبة الامل .
ولم يكن يسلم من هذه العيوب احد . فاما هذا الشيخ فقد كان شديد الحقد على زملائه واقرانه ، شديد المكر بهم والكيد لهم ، يلقاهم مبتسماً فلا يكاد يفارقهم حتى يقول فيهم اشنع القول ويسعى بهم اقبح السعي. واما هذا الشيخ الاخر فقد كان رقيق الدين ، يظهر التقوى اذا كان في الازهر او بين اقرانه ، فاذا خلا الى نفسه والى شياطينه اغرق في اثم عظيم.
وكانت الغيبة والنميمة اشيع واشنع ما كان يُذكر من عيب الشيوخ. فكان الطلاب يذكرون سعي ذلك الشيخ بصديقه الحميم عند شيخ الازهر او عند الشيخ المفتي ، وكانوا يذكرون ان شيخ الازهر كان اذناً للنمامين ، وان الشيخ المفتي كان يترفع عن الاستماع لهم ويلقاهم بالزج القاسي العنيف.
وقد تحدث الطلاب الكبار ذات يوم بقصة عن جماعة من كبار الشيوخ سموهم يومئذ ، فزعموا ان هؤلاء الشيوخ لاحظوا انهم قد اسرفوا على انفسهم في الغيبة ، فأستعظموا ذلك وذكروا قول الله عز وجل : "ولا يغتب بعضكم بعضاً ليحب احدكم ان ياكل لحم اخيه ميتاً فكرهتموه"، فتناهوا عن هذه الخطيئة الكبيرة ، وتعاهدوا على ان من اخذ منهم في الغيبة فعليه ان يؤدي الى اصحابه عشرين قرشاً .
وقد كفوا عن الغيبة يوماً او بعض يوم ضناً بهذا المبلغ من النقد . وانهم لفي بعض حديثهم ، واذا شيخ يمر بهم فيلقي عليهم تحية ، ويمضي في طريقه. ولكنه لا يكاد يمضي حتى يخرج احدهم قطعة من الفضة فيدفعها الى اصحابه وياخذ في اغتياب هذا الشيخ.
فاما تحدث الطلاب كباراً وصغاراً بجهل شيوخهم وتورطهم في الوان الخطأ المضحك الذي كان بعضه يتصل بالفهم وبعضه يتصل بالقراءة ، فقد كان اكثر من ان يحصى واعظم من ان يقدر . ومن اجل هذا كان صاحبنا سيء الرأي في العلماء والطلاب جميعاً . وكان يرى ان الخير كل الخير في ان يجد ويجتهد ويحصل ما استطاع من العلم معرضاً عن مصادره التي كان يستقيه منها .
وازداد رايه سوءاً حين استقبل السنة الثالثة من حياته في الازهر ، فالتمس لنفسه استاذاً يقرأ في الفقه شرح مُلا مسكين على الكنز ، فُدل على استاذ معروف بعيد الذكر ظاهر المكانة في القضاء ، فذهب اليه وجلس في حلقته ، ولكنه لم يكد ينفق دقائق حتى احس حرجاً عظيماً وراي نفسه مضطراً الى ان يبذل جهداً شديداً لمقاومة الضحك . وذلك ان الشيخ رحمه الله قد كانت له لازمة غريبة ، كما كان يقول الازهريون . فلم يكن يقرأ جملة في الكتاب او يفسرها من عند نفسه الا قال هذه الجملة مرتين : "قال ايه ثم قال ايه”
يعيد ذلك مرات في الدقائق القليلة ، وصاحبنا يسمع له ويعنف على نفسه حتى لا يضحك فياتي منكراً من الامر.
وقد استطاع صاحبنا ان يضبط نفسه ، ولكنه لم يستطع ان يختلف الى درس الاستاذ اكثر من ثلاثة ايام ، لانه لم يجد عنده غناء ، وانما وجد عنده عناء ، لم يفد منه شيئاً ، وانما كان يكظم ضحكه كظماً عنيفاً ، ويكلف نفسه من ذلك ما لم تكن تطيق . والتمس غيره من الاساتذة الذين كانوا يقرءون هذا الكتاب ، فلم يجد عندهم الا هذه اللوازم التي كانت تختلف باختلافهم ، ولكنها كانت تدفع الغلام الى الضحك وتضطره الى ان يبذل في ضبط نفسه من الجهد ما كان يشغله احياناً عن الاستماع ، وقيل له في اثناء ذلك ان هذا الكتاب من كتب الفقه ليس بذي خطر ، وان استاذاً ممتازاً سموه له يقرأ كتاب الدرر ، والخير في ان تحضر درسه ، فهو من اذكى العلماء وابرع القضاة .
واستشار صاحبنا اخاه واصحاب اخيه فلم يردوه عن ذلك ، بل شجعوه عليه واوصوا به الشيخ . وقد رضى الغلام عن استاذه الجديد في دروسه الاولى ، فلم يكن يلتزم جملة بعينها او لفظاً بعينه او صوتاً بعينه ، ولم يكن يتردد في القراءة ولا في التفسير، وكان ذكاؤه واضحاً ، واتقانه للفقه متقناً ، وحسن تصرفه فيه لا يتعرض للشك .
وكان الاستاذ رشيقاً انيقاً حلو الصوت ممتازاً في حركته وفي لقائه للطلاب وحديثه اليهم . وكان معروفاً بالتجديد ، لا في العلم ولا في الرأي ، ولكن في السيرة. وكان كبار الطلاب يتحدثون بانه يلقي درسه اذا صبح ثم يمضي الى محكمته فيقضي فيها ، ثم يروح الى بيته فيطعم وينام . فاذا كان الليل خرج مع لذاته فذهب الى حيث لا ينبغي ان يذهب العلماء ، وسمع من الغناء ما لا ينبغي ان يسمع العلماء ، واقبل من اللذات على ما لا ينبغي ان يقبل عليه رجال الدين ، وكانوا يذكرون "الف ليلة وليلة". فيعجب الغلام لانه كان يعرف ان "الف ليلة وليلة" اسم كتاب طالما قرأ فيه ووجد في قراءته لذة ومتاعاً . ولكنهم كانوا يذكرون هذا الاسم على انه مكان يسمع فيه الغناء ، ويكون فيه اللهو ، وتطلب فيه بعض اللذات .
وكان الغلام يسمع عن شيخه هذه الاحاديث فلا يصدقها ولا يطمئن اليها ، ولكنه لم ينفق مع الشيخ اسابيع حتى احس منه تقصيراً في اعداد الدرس ، وقصوراً في تفسير النص ، وضيقاً باسئلة الطلاب ، بل احس منه اكثر من ذلك ، فقد ساله ذات يوم عن تفسير بعض ما كان يقول فلم يجبه الا بالشتم . وكان الشيخ ابعد الناس عن الشتم واشدهم عنه ترفعاً.
فلما قص الغلام على اخيه واصحابه من امر الشيخ ما راى ، انكروا ذلك واسفوا له ، وهمس بعضهم لبعض بان العلم والسهر في "الف ليلة وليلة" لا يجتمعان.
وكان حظ الغلام في النحو خيراً من حظه في الفقه ، فقد سمع القطر والشذور على الشيخ عبد الله دراز رحمه الله ، فوجد من ظرف الاستاذ وصوته العذب وبراعته في النحو ومهارته في رياضة الطلاب على مشكلاته ما زاده في النحو حباً.
لكن حظه في النحو لم يلبث ان ساء حين استؤنفت الدراسة في العام الجديد . فقد اخذ الغلام يسمع على الشيخ عبد الله دراز شرح ابن عقيل ,. وبينما الاستاذ وطلابه ماضون في درسهم ، راضون عن عملهم ، صدر الامر الى الاستاذ بالانتقال الى معهد الاسكندرية . فمانع في ذلك ما استطاع ، ومانع طلابه ما استطاعوا ، ولكن المشيخة لم تسمع له ولا لهم . فلم يجد بداً من انفاذ الامر . ولم ينس الغلام ذلك اليوم الذي ودع الاستاذ فيه طلاببه ، وانه ليبكي مخلصاً ، وانهم ليبكون مخلصين ويشيعونه باكين الى باب المسجد.
ثم اقيم مقام الشيخ، شيخ آخر ضرير ، وكان مشهوراُ بالذكاء الحاد والتفوق الظاهر والنبوغ الممتاز ، وكان لا يذكر الا اثنى عليه ذاكروه والسامعون لذكره بهذه الخصال . اقبل هذا الشيخ ، فاخذ الدرس من حيث تركه الشيخ عبد الله دراز . وكانت حلقة الشيخ عند الله دراز عظيمة تملا رقعتها القبة من مسجد محمد بك ابي الذهب. فلما خلفه هذا الشيخ ازدادت هذه الحلقة ضخامة واتساعاً حتى اكتظ بها المكان . القي الشيخ درسه الاول فرضي عنه الطلاب ، ولكنهم لم يجدوا عنده وداعة استاذهم القديم ولا عذوبة صوته . ثم القى درسه الثاني والثالث ، واذا الطلاب ينكرون منه رضاه عن نفسه واعجابه بها ، وثقته بما كان يقول ، وغضبه الحاد على مقاطعيه .
ولم يكد يتقدم في درسه الرابع حتى كانت بينه وبين صاحبنا قصة صرفت الغلام عن النحو صرفاً . كان الشيخ يفسر قول تأبط شراً:
فابتُ الى فهم وما كدت آثبا وكم مثلها فارقته وهي تصفر
فلما وصل الى قرله "تصفر" اقل : ان العرب كانت اذا اشتدت على احدهم ازمة او محنة وضعوا اصابعهم في افواههم ونفخوا فيها ، فكان لها صفير يسمع .
قال الغلام للشيخ : واذن فما مرجع الضمير في قوله "وهي تصفر" وفي قوله"وكم مثلها فارقتها؟" قال الشيخ مرجعه "فهم" ايها الغبي. قال الغلام: فانه قد عاد الى فهم والبيت لا يستقيم على هذا التفسير. قال الشيخ : فانك وقح وقد كان يكفي ان تكون غبياً . قال الغلام : ولكن هذا لا يدل على مرجع الضمير. فسكت الشيخ لحظة ثم قال: "انصرفوا ، فلن استطيع ان اقرأ وفيكم هذا الوقح."
ونهض الشيخ ، وقام الغلام ، وقد كاد الطلاب يبطشون به لولا ان حماه زملاؤه.
ولم يعد الغلام الى درس النحو ، بل لم يحضر الغلام بعد ذلك درساً في النحو ، بل ذهب من غده الى درس كان يلقيه استاذ معروف من اهل الشرقية . وكان يقرأ شرح الاشموني ، ولكنه لم يتم الاستماع للدرس. مضى الشيخ يقرأ ويفسر ، وسأله الغلام في بعض الشيئ ، فرد عليه الشيخ بما لم يقنعه . فاعاد السؤال ، فغضب الشيخ وامره بالانصراف. فتوسط بعض اصدقائه عند الشيخ يستعطفونه ، فازداد غضب الشيخ وابى ان يمضي في الدرس ختى يقوم هذا الغلام ومعه اصدقائه ,. ولم يكن لهم بد من ان ينصرفوا.
وذهب الغلام من غده مع اصحابه الى حلقة اخرى كان يُقرا فيها شرح الاشموني ، يقرؤه استاذ مشهور من اساتذة الشرقية ايضاً . فوقف الغلام على الحلقة لحظة لا تتجاوز الدقائق الخمس ، ولكنه سمع فيها هذه اللزمة يعيدها الشيخ كلما انتقل من جملة الى جملة "اخص على بلدي". فضحك الغلام وضحك اصدقاؤه وانصرفوا . وازمع الغلام وصديق له ان يدرسا النحو مستقلين ، وان يدرساه في مصادره الاولى ، فقرآ كتاب المفصل للزمخشري ، ثم كتاب سيبويه ، ولكن هذه قصة اخرى.
ولم يكن حظه في المنطق خيراً من حظه في الفقه والنحو . لقد احب المنطق حباً شديداً حين كان يسمع شرح السيد على ايساغوجي من استاذه ذلك الشاب في العام الماضي. فاما في هذا العام فقد جلس لامثاله من اوساط الطلاب علم من اعلام الازهر الشريف ، وامام من ائمة المنطق والفلسفة فيه ، وكان معروفاً بين كبار الطلاب بهذا الذكاء الظاهر الذي يخدع ولا يغني شيئاً ، وكان معروفاً بهذه الفصاحة التي تبهر الاذن ولا تبلغ العقل . وكان يؤثر عنه انه كان يقول "مما من الله علي به اني استطيع ان اتكلم ساعتين فلا يفهم احد عني شيئاً ولا افهم انا عن نفسي شيئاً . " كان يرى ذلك مزية وفخراً . ولكن لم يكن بد للطالب الذي يقدر نفسه من ان يجلس اليه ويسمع منه . وقد جلس للطلاب بعد صلاة المغرب يقرأ لهم شرح الخبيصي على تهذيب المنطق . وذهب اليه صاحبنا وسمع منه درساً ودرساً ، وكانت حلقته عظيمة حقاً تكتظ بها القبة في جامع محمد بك . وكان الغلام يسبق صلاة المغرب فيجلس في اقرب مكان من كرسي الاستاذ . وكان الاستاذ جهوري الصوت قد احتفظ بلهجة الصعيد كاملة . وكان شديد النشاط كثير الحركة . وكان اذا ساله طالب رد عليه ساخراً منه ، فان الح الطالب في السؤال ثار هو به وجعل يقول له في حدة : "اسكت ياخاسر ، اسكت ياخنزير!" وكان يفخم الخاء في الكلمتين الى اقصى ما يستطيع فيه ان يبلغ من التفخيم .
وقد استقام للشيخ وللطلاب امرهم حتى اتمموا قسم التصورات . فلما بلغوا في كتابهم المقصد الثاني في التقصديقات لقى الغلام من نفسه ومن شيخه بلاء عظيماً ، فاضطر الى ان يختار له من الغد مكاناً بعيداً عن الشيخ ، وما زال يتاخر يوماً بعد يوم في مجلسه حتى بلغ باب القبة ، فحرج منه ذات ليلو ، ولم يدخله بعد ذلك.
لقى الغلام بلاء من نفسه لم يذكره قط الا ضحك منه ضحكاً شديداً ، واضحك منه اخاه واصدقائه جميعاً . فقد جلس الشيخ على كرسيه واخذ في القراءة ، فقال : "المقصد الثاني في التصديقات" يقلقل القاف ويفخم الصاد ، ويمد الالفات والياءات مداً متوسطاً ، ثم يعيد هذه الكلمات نفسها فيقلقل القاف ويفخم الصاد ويطيل مد الالف والياء في الثاني ، ولكنه لا يقول " في التصديقات" وانما يقول "في مين؟" فلا يرد عليه احد . فيرد على نفسه ويقول "في التصديقات" ثم يعيد الكلمة نفسها على هذا النحو نفسه ، فاذا انتهى الى قوله "في مين" ولم يرد عليه احد ، ضرب بظهر يده في جبهة الغلام وهو يقول : "ردوا ياغنم ، ردوا يابهائم ، ردوا ياخنازير!". يفخم الغين والخاء الى اقصى ما يستطيع فمه ان يبلغ من التفخيم ، فيقول الطلاب جميعاً : "في التصديقات."
لقى الغلام من نفسه عناء شديداً ، فقد كان هذا كله خليقاً ان يضحكه ، وكان يخاف ان يضحك بين يدي الاستاذ . ولقى من شيخه بلاءاً عظيماً بهذه الضربات التي كانت تتوالى على جبهته بين حين وحين. ومهما يكن من شيء فقد تحول الغلام عن هذا الدرس ولم يتجاوز بالمنظق عند هذا الشيخ باب القضايا .
تحول عن هذا الدرس في اثناء العام ، وقرر ان يحضر مكانه درساً في التوحيد كان يلقيه شيخ جديد حديث الظفر بدرجة العالمية . وكان اصدقاؤه من كبار الطلاب يذكرونه بالظرف الشديد والذكاء المتوسط وحلاوة الصوت وحسن الالقاء ، ويقولون: ان علمه يخدع من حدثه او سمع عنه ، فاذا تعمقه لم يجد عنده شيئاً . وكان يقرأ شرح الخريدة ومتنها للدردير. فسمع الغلام منه درساً واعجب بصوته والقائه وظرفه ، وجعل ينتظر ان يعجب بعلمه وفنقلته . ولكن الشيخ صُرف عن الدرس لانه نقل من القاهرة وارسل الى مكان بعيد تولى فيه منصب القضاء ، فلم يتح للغلام ان يعلم علمه ، ولا ان يقضي في امره بشيء الا انه كان لبقاً ظريفاً حلو الصوت عذب الحديث .
واذاً فقد ضاعت السنة في حقيقة الامر على الغلام ، ولم يحصل فيها من العلم شيئاً جديداً ، الا ما كان يقرؤه في الكتب ويسمعه من اولئك الطلاب الكبار وهم يطالعون او يتناظرون .
فلما عاد الى الازهر عاد اليه ضيق النفس به ، شديد الزهد فيه ، حائراً في امره لا يدري ماذا يصنع : لا يستطيع ان يقيم في الريف ، وماذا يفعل في الريف ! ولا يجد نفعاً من اقامته في القاهرة واختلافه الى الشيوخ .