التسمية:
التسمية: السامية الحامية ـ قياسا بالهندية الأوربية. ظهرت التسمية سنة 1781 وأطلقها المستشرق النمساوي شلوتزر وقد أخذها عن التصنيف التوراتي للبشر بعد الطوفان، أي نسبة لأبناء نوح وهم: سام وحام ويافث. وهذا التصنيف خاطئ في جميع الأحوال لأنه يعتبر الفينيقيين ـ وهم ساميون ـ حاميين لأنه كان بينهم وبين اليهود الذين دونوا التوراة عداوة. أضف إلى ذلك أن الزنوج اعتبروا من سلالة حام الملعون، لأن التوراة تنسب إلى نوح عليه السلام لعنته حاما الذي لم يغط عورة أبيه، مما عرضهم ذريته للعبودية فيما بعد.
والنظرية السائدة في الدراسات السامية الحامية أن أصل تلك اللغات من الجزيرة العربية، هاجروا منها بعد أن تصحرت بداية الألفية الخامسة قبل الميلاد، فقصدوا مواطن الماء والكلأ على ضفاف دجلة والفرات والعاصي في الشام.
كانت بداية الهجرة من الجزيرة بداية الألفية الرابعة قبل الميلاد، حيث خرجت قبائل من الجزيرة العربية إلى مصر والمغرب العربي الكبير، واختلطت بالسكان الأصليين في الشمال الإفريقي، فنتج عن هذا الاختلاط القبائل التي كونت الحاميين فيما بعد. فالشعب المصري القديم، والشعب الأمازيغي، تولدا من اختلاط القبائل السامية المهاجرة إلى شمال إفريقية، بالقبائل الأصلية فيها.
أما الهجرة الثانية فكانت في منتصف الأف الرابعة قبل الميلاد، وهي هجرة الأكاديين إلى بلاد الرافدين.أما الهجرة الثالثة فكانت هجرة الأوغاريتيين إلى غربي سورية في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد. ويغلب الظن أن الأوغاريتيين كانوا عرباً استعمروا غربي سورية وكانت حاضرة ملكهم في رأس شمرا غربي سورية.
ثم تلت بعد ذلك هجرة الآراميين والكنعانيين إلى بلاد الشام بداية الألف الثالث قبل الميلاد. والكنعانيون هم: الفينيقيون والمؤابيون والعبران.
ثم هاجر نفر من عرب الجنوب إلى إفريقية بداية الألف الأول قبل الميلاد واختلطوا بالسكان الأصلين ونتج عن ذلك الشعب الإثيوبي القديم.
قبل الدخول في تصنيف اللغات السامية، نتوقف قليلاً عند التسمية التي يقصد بها قبل كل شيء الدلالة على طائفة من اللغات التي ترتبط ببعضها بقرابة لغوية بادية. فالتسمية لا تفترض وجود شعب سامي بقدر ما هي تسمية اصطلاحية للدلالة على أسرة لغوية تنتمي إلى أصل لغوي واحد اصطلح على تسميته باللغة السامية الأم. وأول من اهتدى إلى تلك القرابة وتنبه إلى وجودها هم العلماء العرب واليهود المستعربون مثل ابن حزم الأندلسي والنحوي اليهودي مروان بن جناح وغيرهما ممن سأذكر أدناه.
يقول ابن حزم الأندلسي:
"إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر لا لغة حمير لغة واحدة تبدلت بتبدل بمساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي، ومن الخراساني إذا رام نغمتهما. ونحن نجد من إذا سمع لغة فحص البلوط، وهي على مسافة ليلة واحدة من قرطبة، كاد أن يقول إنها غير لغة أهل قرطبة. وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبدلاً لا يخفى على من تأمله.
ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلاً وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق، فنجدهم يقولون في العنب "العينب" وفي السوط "أسطوط" وفي ثلاثة دنانير "ثلثدا". فإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال "السجرة"! وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول "مهمداً" إذا أراد أن يقول "محمداً". ومثل هذا كثير. فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافها إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل".[1] ويفهم من هذا الكلام أن ابن حزم كان عرف تلك اللغات!
ويقول يهوذا بن قريش:
"وإنما كانت العلة في هذا التشابه والسبب في هذا التمازج قرب المجاورة في النسب لأن تارح أبو [هكذا] إبراهيم كان سريانياً ولبان سريانياً. وكان إسماعيل وقدر مستعربين من دور הפלגה من زمان البلبلة في بابل ... وإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام متمسكين [هكذا] بـ לשון קדש [لشون قودش = اللسان المقدس] فتشابهت اللغة من قبل الممازجة كما نشاهد في كل بلد مجاور لبلد مخالف للغته من امتزاج بعض الألفاظ بينهم واستعارة اللسان بعضهم من بعض فهذا سبب ما وجدناه من تشابه العبراني بالعربي غير طبع الحروف التي يفتتح بها في أول الكلام والحروف المستعملة في أواسط الكلام والحروف التي يختم فيها [هكذا] في أوخر الكلام. فإن العبرانية والسريانية والعربية مطبوعة في ذلك على قوالب واحدة. وليس ذلك بموجود في لغة من سائر لغات الأمم سوى لسان العبراني والسرياني والعربي".[2]
ويقول يهوذا اللاوي:
"فإنها [أي العبرانية] اللغة التي أوحي بها إلى آدم وحواء وبها تلافظا ... وقد كان إبراهيم سريانياً في אור קשדים [أور الكلدانيين (والحق هي أور السومريين)] لأن السريانية لغة קשדים [= الكلدان]. وكانت له العبرانية لغة خاصة לשון קדש [لشون قودش = اللسان المقدس] والسريانية לשון חול [لشون حول = لسان حال]. لذلك حملها إسماعيل إلى العرب فصارت هذه الثلاث لغات السريانية والعربية والعبرانية لغات متشابهة في أسمائها وأنحائها وتصاريفها".[3]
ويقول مروان بن جناح القرطبي:
"أفلا تراهم [الضمير عائد إلى علماء التلمود] يفسرون كتب الله من اللسان اليوناني والفارسي والعربي والإفريقي وغيره من الألسن؟ فلما رأينا ذلك منهم لم نتحرج [من الاستشهاد] على ما لا شاهد عليه من العبراني بما وجدناه موافقاً ومجانساً له من اللسان العربي إذ هو أكثر اللغات بعد السرياني شبهاً بلساننا. وأما اعتلاله وتصريفه ومجازاته واستعمالاته فهو في جميع ذلك أقرب إلى لساننا من غيره من الألسن، يعلم ذلك من العبرانيين الراسخون في علم لسان العرب، النافذون فيه وما أقلهم"![4]
ويقول موسى بن عزرا:
"وأما المقاربة التي بين اللغات العبرانية والسريانية والعربية فبسبب تصاقب الديار وتداني الأمصار، حتى أن لا فرق بينها في أكثر أسماء الجواهر إلا بمقدار اليبس والرطوبة، وسببها اختلاف الأهوية والمياه المتقدم ذكرهما. وعلل أبو إبراهيم ابن برون رضي الله عنه هذا التشابه الذي بين هذه الثلاث لغات بغير هذا التعليل، وما أرى ذلك. على أنه ما قصر في أكثر ما أتى به في تأليفه ذاك الملقب بالموازنة من التقارب بين الأنحاء واللغات في الملتين حتى ذكر ألفاظاً قليلة الكم توافقت [العبرية] فيها اللغة اللطينية والبربرية، وهذا أمر إنما وقع في ما أظن بالاتفاق".[5]
والقرابة اللغوية تكون ثابتة عندما تكون قرابة مضطردة المجالات الأربعة التالية:
1. الصوتيات (مثلا الأحرف الحلقية)
2. الصرف (بناء الكلمة، مثلا: فَعْلٌ/فِعْلٌ/فُعْلٌ)
3. النحو (بناء الجملة)
4. اللغة (أي المفردات)
والقرابة اللغوية بين الساميات مضطردة اضطراداً ثابتاً تحكمه قوانين صوتية ولغوية عامة.
2. التصنيف
تتكون أسرة اللغات السامية من ثلاثة أفرع:
1- الفرع الجنوبي: ويتكون من اللغة العربية البائدة (لغة جنوب الجزيرة العربية أو العربية الجنوبية، بالإضافة إلى الثمودية واللحيانية) والعربية الفصحى (أو العربية الشمالية) والحبشية (الجعزية والأمهرية)؛
2- الفرع الشمالي الشرقي: ويتكون من الأكادية بلهجتيها البابلية والآشورية؛
3- الفرع الشمالي الغربي: ويتكون من اللغات الأوغاريتية والآرامية واللغات الكنعانية (الفينيقية والمؤابية والعبرية) وكذلك الإبلية (على اختلاف بين علماء الساميات في ذلك).
وهنالك لهجات كثيرة تفرعت عن اللغات السامية المذكورة أعلاه.
أما اللغات الحامية فتتكون من المصرية القديمة ولهجاتها اللاحقة كالقبطية، ومن اللغة الأمازيغية (الاسم الصحيح للبربرية) والكوشية (لغة محكية في مناطق في تشاد ومالي ما إليهما) وبعض اللهجات الأخرى.
والقرابة اللغوية بين اللغات السامية، وبنات عمها، اللغات الحامية، ثابتة علمياً، إلا أنها دون القرابة بين الساميات فيما بينهما نسبة، ولا تبدو بوضوح لغير المتخصص إلا بعد بعد رد الأصول إلى جذور ثنائية.
مثال:
الجذر الدال على الإيمان: في كل الساميات: /أمن/ وفي الحاميات /من/. ومعنى هذا الجذر الأساسي في اللغات السامية والحامية هو "صدَّق، ثَبَت، ثبت بالإيمان" كما ترى في /أمِنَ/ في العربية، وفي /آمن/. ومثله في الحبشية: /أَمَنَ/ "ثبتَ (بضم الباء)، وفي الحميرية: /أمنت/ "أمانة"، وفي السريانية: ܐܡܝܢ: أمين "ثابت، قوي، سرمدي"، وكذلك في العبرية: אמן: آمِن "آمين" وكذلك אמנם: أمنَم "حقا". والكلمة العبرية الأخيرة منصوبة على الحال بالميم وهو من بقايا الإعراب في الساميات الذي كان فيها بالميم ثم أصبح في العربية بالنون (التنوين). ولقد وردت الكلمة في اللغات الحامية التي أذكر منها المصرية القديمة /م ن/ "ثبت، صدق". ومن هذا الجذر اشتق أيضا اسم الإله المصري القديم "آمون"، الذي كان يعبد في "نو"، والذي ورد في اسم الفرعون "توت عنخ آمون".[6]
تعتبر اللغة الأكادية أقدم اللغات السامية من حيث التدوين لأنها أول لغة سامية دُونت بالكتابة المسمارية التي أخذها الأكاديون عن السومريين والسومريون هم أقدم الأقوام المعروفين الذين سكنوا جنوب بلاد الرافدين وبنوا فيه أول حضارة في تاريخ البشرية واخترعوا الكتابة المسمارية وهي أول كتابة في التاريخ أيضاً. ومن المعروف أن اختراع الكتابة كان الحد الذي يفصل بين الحقبة التاريخية وحقب ما قبل التاريخ.
وتعتبر اللغة العربية الفصحى أو الشمالية (لغتنا الحالية) آخر لغة سامية دونت. أما العربية الجنوبية (لغة ممالك سبأ وقتبان وحضرموت وحمير) فقد سبق تدوينها تدوين العربية الشمالية بقرون كثيرة، وتسمى الكتابة التي تكتب بها بخط المسند وهي أبجدية مكونة من تسعة وعشرين حرفاً، وهي مجهولة الأصل.
وعلى الرغم من أن العربية الشمالية آخر اللغات السامية تدويناً إلا أنها احتفظت بجل خصائص اللغة السامية الأم، كالإعراب الذي اختفى من كل اللغات السامية باستثناء الأكادية. واللغة السامية الأم هي لغة فرضية تُوُصل إليها بعلم اللغة المقارن (أي مقارنة الساميات ببعضها). ويعلل ذلك بسبب العزلة النسبية التي عاشتها القبائل العربية التي بقيت في الجزيرة العربية بينما تأثرت لغة القبائل السامية المهاجرة باللغات الأخرى غير السامية التي اتصلت بها وأخذت منها وأعطتها، الشيء الذي أدى إلى حدوث تغيرات لغوية أبعدتها من الأصل السامي وهذا ما وقع للأكادية والعبرية والحبشية وغيرها.
3. اللغات السامية الحامية الحية:
لقد اندثر معظم اللغات السامية والحامية ولم يبق منها اليوم إلا اللغات التالية:
1.3. اللغات السامية الحية:
1. اللغة العربية الفصحى التي لم تتغير صوتا وصرفا ونحوا منذ تدوينها حتى اليوم. أما الفترة التي سبقت تدوينها، فهي ضاربة في القدم. ولقد رأينا أنها أقدم من الأكادية خصوصيةً لغويةً ساميةً، علما أن تدوين الأكادية يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد!
2. العبرية الحديثة: وقد تم إحياؤها على يد اللغوي اليهودي اِليِعَزَر بن يهودا بداية القرن العشرين، وتبنت ذلك الحركة الصهيونية. ولعل إحياء العبرية أهم إنجاز من إنجازات الصهيونية العالمية!
3. اللغة الأمهرية: لغة إثيوبيا اليوم. وتكتب بكتابة مقطعية مشتقة من خط المسند الحميري.
4. اللهجات الآرامية: ويحدث بها اليوم حوالي ثلاثة ملايين شخص متوزعين كما يلي:
ـ السريانية: ويتحدث بها اليوم في معلولا وصيدنايا في سورية. ويسمى المتحدثون بها بالمسيحيين السريان.
ـ الكلدانية: ويتحدث بها اليوم في القامشلي والمالكية في شمال شرق سورية وفي شمال العراق في منطقة الموصل وزاخو وبطنايا وفي شرقي تركيا في منطقة حسنة وما جاورها. ويسمى المتحدثون بها بالمسيحيين الكلدان. إلا أن المستعمر سماهم بالآشوريين فراجت هذه التسمية عند بعضهم!ـ المندعية: ويتحدث بها في شمال العراق، في منطقة وودي لالش. ويسمى المتحدثون بها بالمندعيين/الصابئة، وهم المعروفون في العراق باسم اليزيديين/عبدة الشيطان!
2.3. اللغات الحامية الحية:
إذا استثنينا القبطية ـ وهي لغة كنسية ـ فإن اللغة الحامية الوحيدة التي لا تزال محكية هي اللغة الأمازيغية المحكية في الجزائر والمغرب وما إليهما من بعض المناطق الصحراوية. وتتوزع اللغة الأمازيغية اليوم على اللهجات التالية:
أ) الجزائر:
ـ الأمازيغية: ويتحدث بها نواحي كثيرة من الجزائر، وأفصحها اللهجة الزّْواوِيَّة المحكية في منطقة تِيزِي وِزُّو التي شهدت نشاطا كبيرا لإحيائها.
ب) الصحراء:
ـ القبائلية: ويتحدث بها قبائل الطوارق المنتشرين في الصحراء بين المغرب والجزائر؛
ج) المغرب:
ـ الأمازيغية/السوسية (تاسوسيت): ويتحدث بها في جنوب المغرب؛
ـ الشِّلحة (تاشلحيت): ويتحدث بها في جبال الأطلس؛
ـ الريفية (تاريفيت): ويتحدث بها في شمال المغرب؛
د) مالي وتشاد:
ـ الكوشية: ويتحدث بها في بعض نواحي تشاد ومالي.
4. أهمية دراسة اللغات السامية:
إن معرفة اللغات السامية أمر في غاية الأهمية لأسباب كثيرة أهمها التاريخ والسياسة وعلم اللغة والمفردات الخ. ولقد ظلت هذه الدراسات زمناً طويلاً حكراً على المستشرقين الذين بدؤوها وأسسوا لها وطوروها. لكن إلى متى؟
وتتلخص الأسباب الموجبة لدراسة اللغات السامية الحامية فيما يلي:
1. الأسباب اللغوية: اللغة العربية لغة سامية تنتمي إلى أسرة اللغات السامية الحامية، ومعرفة تلك اللغات شرط أساسي لعلم اللغة لمقارن والأدب المقارن!
2. الأسباب الثقافية: نحن ـ العرب ـ ورثة الإرث الحامي السامي القديم!
3. الأسباب السياسية: هنالك اسباب سياسية كثيرة تدعو لدراسة اللغات السامية لوضع الأمور في نصابها سوف أتطرق لها فيما بعد.
التسمية: السامية الحامية ـ قياسا بالهندية الأوربية. ظهرت التسمية سنة 1781 وأطلقها المستشرق النمساوي شلوتزر وقد أخذها عن التصنيف التوراتي للبشر بعد الطوفان، أي نسبة لأبناء نوح وهم: سام وحام ويافث. وهذا التصنيف خاطئ في جميع الأحوال لأنه يعتبر الفينيقيين ـ وهم ساميون ـ حاميين لأنه كان بينهم وبين اليهود الذين دونوا التوراة عداوة. أضف إلى ذلك أن الزنوج اعتبروا من سلالة حام الملعون، لأن التوراة تنسب إلى نوح عليه السلام لعنته حاما الذي لم يغط عورة أبيه، مما عرضهم ذريته للعبودية فيما بعد.
والنظرية السائدة في الدراسات السامية الحامية أن أصل تلك اللغات من الجزيرة العربية، هاجروا منها بعد أن تصحرت بداية الألفية الخامسة قبل الميلاد، فقصدوا مواطن الماء والكلأ على ضفاف دجلة والفرات والعاصي في الشام.
كانت بداية الهجرة من الجزيرة بداية الألفية الرابعة قبل الميلاد، حيث خرجت قبائل من الجزيرة العربية إلى مصر والمغرب العربي الكبير، واختلطت بالسكان الأصليين في الشمال الإفريقي، فنتج عن هذا الاختلاط القبائل التي كونت الحاميين فيما بعد. فالشعب المصري القديم، والشعب الأمازيغي، تولدا من اختلاط القبائل السامية المهاجرة إلى شمال إفريقية، بالقبائل الأصلية فيها.
أما الهجرة الثانية فكانت في منتصف الأف الرابعة قبل الميلاد، وهي هجرة الأكاديين إلى بلاد الرافدين.أما الهجرة الثالثة فكانت هجرة الأوغاريتيين إلى غربي سورية في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد. ويغلب الظن أن الأوغاريتيين كانوا عرباً استعمروا غربي سورية وكانت حاضرة ملكهم في رأس شمرا غربي سورية.
ثم تلت بعد ذلك هجرة الآراميين والكنعانيين إلى بلاد الشام بداية الألف الثالث قبل الميلاد. والكنعانيون هم: الفينيقيون والمؤابيون والعبران.
ثم هاجر نفر من عرب الجنوب إلى إفريقية بداية الألف الأول قبل الميلاد واختلطوا بالسكان الأصلين ونتج عن ذلك الشعب الإثيوبي القديم.
قبل الدخول في تصنيف اللغات السامية، نتوقف قليلاً عند التسمية التي يقصد بها قبل كل شيء الدلالة على طائفة من اللغات التي ترتبط ببعضها بقرابة لغوية بادية. فالتسمية لا تفترض وجود شعب سامي بقدر ما هي تسمية اصطلاحية للدلالة على أسرة لغوية تنتمي إلى أصل لغوي واحد اصطلح على تسميته باللغة السامية الأم. وأول من اهتدى إلى تلك القرابة وتنبه إلى وجودها هم العلماء العرب واليهود المستعربون مثل ابن حزم الأندلسي والنحوي اليهودي مروان بن جناح وغيرهما ممن سأذكر أدناه.
يقول ابن حزم الأندلسي:
"إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر لا لغة حمير لغة واحدة تبدلت بتبدل بمساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي، ومن الخراساني إذا رام نغمتهما. ونحن نجد من إذا سمع لغة فحص البلوط، وهي على مسافة ليلة واحدة من قرطبة، كاد أن يقول إنها غير لغة أهل قرطبة. وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبدلاً لا يخفى على من تأمله.
ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلاً وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق، فنجدهم يقولون في العنب "العينب" وفي السوط "أسطوط" وفي ثلاثة دنانير "ثلثدا". فإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال "السجرة"! وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول "مهمداً" إذا أراد أن يقول "محمداً". ومثل هذا كثير. فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافها إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل".[1] ويفهم من هذا الكلام أن ابن حزم كان عرف تلك اللغات!
ويقول يهوذا بن قريش:
"وإنما كانت العلة في هذا التشابه والسبب في هذا التمازج قرب المجاورة في النسب لأن تارح أبو [هكذا] إبراهيم كان سريانياً ولبان سريانياً. وكان إسماعيل وقدر مستعربين من دور הפלגה من زمان البلبلة في بابل ... وإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام متمسكين [هكذا] بـ לשון קדש [لشون قودش = اللسان المقدس] فتشابهت اللغة من قبل الممازجة كما نشاهد في كل بلد مجاور لبلد مخالف للغته من امتزاج بعض الألفاظ بينهم واستعارة اللسان بعضهم من بعض فهذا سبب ما وجدناه من تشابه العبراني بالعربي غير طبع الحروف التي يفتتح بها في أول الكلام والحروف المستعملة في أواسط الكلام والحروف التي يختم فيها [هكذا] في أوخر الكلام. فإن العبرانية والسريانية والعربية مطبوعة في ذلك على قوالب واحدة. وليس ذلك بموجود في لغة من سائر لغات الأمم سوى لسان العبراني والسرياني والعربي".[2]
ويقول يهوذا اللاوي:
"فإنها [أي العبرانية] اللغة التي أوحي بها إلى آدم وحواء وبها تلافظا ... وقد كان إبراهيم سريانياً في אור קשדים [أور الكلدانيين (والحق هي أور السومريين)] لأن السريانية لغة קשדים [= الكلدان]. وكانت له العبرانية لغة خاصة לשון קדש [لشون قودش = اللسان المقدس] والسريانية לשון חול [لشون حول = لسان حال]. لذلك حملها إسماعيل إلى العرب فصارت هذه الثلاث لغات السريانية والعربية والعبرانية لغات متشابهة في أسمائها وأنحائها وتصاريفها".[3]
ويقول مروان بن جناح القرطبي:
"أفلا تراهم [الضمير عائد إلى علماء التلمود] يفسرون كتب الله من اللسان اليوناني والفارسي والعربي والإفريقي وغيره من الألسن؟ فلما رأينا ذلك منهم لم نتحرج [من الاستشهاد] على ما لا شاهد عليه من العبراني بما وجدناه موافقاً ومجانساً له من اللسان العربي إذ هو أكثر اللغات بعد السرياني شبهاً بلساننا. وأما اعتلاله وتصريفه ومجازاته واستعمالاته فهو في جميع ذلك أقرب إلى لساننا من غيره من الألسن، يعلم ذلك من العبرانيين الراسخون في علم لسان العرب، النافذون فيه وما أقلهم"![4]
ويقول موسى بن عزرا:
"وأما المقاربة التي بين اللغات العبرانية والسريانية والعربية فبسبب تصاقب الديار وتداني الأمصار، حتى أن لا فرق بينها في أكثر أسماء الجواهر إلا بمقدار اليبس والرطوبة، وسببها اختلاف الأهوية والمياه المتقدم ذكرهما. وعلل أبو إبراهيم ابن برون رضي الله عنه هذا التشابه الذي بين هذه الثلاث لغات بغير هذا التعليل، وما أرى ذلك. على أنه ما قصر في أكثر ما أتى به في تأليفه ذاك الملقب بالموازنة من التقارب بين الأنحاء واللغات في الملتين حتى ذكر ألفاظاً قليلة الكم توافقت [العبرية] فيها اللغة اللطينية والبربرية، وهذا أمر إنما وقع في ما أظن بالاتفاق".[5]
والقرابة اللغوية تكون ثابتة عندما تكون قرابة مضطردة المجالات الأربعة التالية:
1. الصوتيات (مثلا الأحرف الحلقية)
2. الصرف (بناء الكلمة، مثلا: فَعْلٌ/فِعْلٌ/فُعْلٌ)
3. النحو (بناء الجملة)
4. اللغة (أي المفردات)
والقرابة اللغوية بين الساميات مضطردة اضطراداً ثابتاً تحكمه قوانين صوتية ولغوية عامة.
2. التصنيف
تتكون أسرة اللغات السامية من ثلاثة أفرع:
1- الفرع الجنوبي: ويتكون من اللغة العربية البائدة (لغة جنوب الجزيرة العربية أو العربية الجنوبية، بالإضافة إلى الثمودية واللحيانية) والعربية الفصحى (أو العربية الشمالية) والحبشية (الجعزية والأمهرية)؛
2- الفرع الشمالي الشرقي: ويتكون من الأكادية بلهجتيها البابلية والآشورية؛
3- الفرع الشمالي الغربي: ويتكون من اللغات الأوغاريتية والآرامية واللغات الكنعانية (الفينيقية والمؤابية والعبرية) وكذلك الإبلية (على اختلاف بين علماء الساميات في ذلك).
وهنالك لهجات كثيرة تفرعت عن اللغات السامية المذكورة أعلاه.
أما اللغات الحامية فتتكون من المصرية القديمة ولهجاتها اللاحقة كالقبطية، ومن اللغة الأمازيغية (الاسم الصحيح للبربرية) والكوشية (لغة محكية في مناطق في تشاد ومالي ما إليهما) وبعض اللهجات الأخرى.
والقرابة اللغوية بين اللغات السامية، وبنات عمها، اللغات الحامية، ثابتة علمياً، إلا أنها دون القرابة بين الساميات فيما بينهما نسبة، ولا تبدو بوضوح لغير المتخصص إلا بعد بعد رد الأصول إلى جذور ثنائية.
مثال:
الجذر الدال على الإيمان: في كل الساميات: /أمن/ وفي الحاميات /من/. ومعنى هذا الجذر الأساسي في اللغات السامية والحامية هو "صدَّق، ثَبَت، ثبت بالإيمان" كما ترى في /أمِنَ/ في العربية، وفي /آمن/. ومثله في الحبشية: /أَمَنَ/ "ثبتَ (بضم الباء)، وفي الحميرية: /أمنت/ "أمانة"، وفي السريانية: ܐܡܝܢ: أمين "ثابت، قوي، سرمدي"، وكذلك في العبرية: אמן: آمِن "آمين" وكذلك אמנם: أمنَم "حقا". والكلمة العبرية الأخيرة منصوبة على الحال بالميم وهو من بقايا الإعراب في الساميات الذي كان فيها بالميم ثم أصبح في العربية بالنون (التنوين). ولقد وردت الكلمة في اللغات الحامية التي أذكر منها المصرية القديمة /م ن/ "ثبت، صدق". ومن هذا الجذر اشتق أيضا اسم الإله المصري القديم "آمون"، الذي كان يعبد في "نو"، والذي ورد في اسم الفرعون "توت عنخ آمون".[6]
تعتبر اللغة الأكادية أقدم اللغات السامية من حيث التدوين لأنها أول لغة سامية دُونت بالكتابة المسمارية التي أخذها الأكاديون عن السومريين والسومريون هم أقدم الأقوام المعروفين الذين سكنوا جنوب بلاد الرافدين وبنوا فيه أول حضارة في تاريخ البشرية واخترعوا الكتابة المسمارية وهي أول كتابة في التاريخ أيضاً. ومن المعروف أن اختراع الكتابة كان الحد الذي يفصل بين الحقبة التاريخية وحقب ما قبل التاريخ.
وتعتبر اللغة العربية الفصحى أو الشمالية (لغتنا الحالية) آخر لغة سامية دونت. أما العربية الجنوبية (لغة ممالك سبأ وقتبان وحضرموت وحمير) فقد سبق تدوينها تدوين العربية الشمالية بقرون كثيرة، وتسمى الكتابة التي تكتب بها بخط المسند وهي أبجدية مكونة من تسعة وعشرين حرفاً، وهي مجهولة الأصل.
وعلى الرغم من أن العربية الشمالية آخر اللغات السامية تدويناً إلا أنها احتفظت بجل خصائص اللغة السامية الأم، كالإعراب الذي اختفى من كل اللغات السامية باستثناء الأكادية. واللغة السامية الأم هي لغة فرضية تُوُصل إليها بعلم اللغة المقارن (أي مقارنة الساميات ببعضها). ويعلل ذلك بسبب العزلة النسبية التي عاشتها القبائل العربية التي بقيت في الجزيرة العربية بينما تأثرت لغة القبائل السامية المهاجرة باللغات الأخرى غير السامية التي اتصلت بها وأخذت منها وأعطتها، الشيء الذي أدى إلى حدوث تغيرات لغوية أبعدتها من الأصل السامي وهذا ما وقع للأكادية والعبرية والحبشية وغيرها.
3. اللغات السامية الحامية الحية:
لقد اندثر معظم اللغات السامية والحامية ولم يبق منها اليوم إلا اللغات التالية:
1.3. اللغات السامية الحية:
1. اللغة العربية الفصحى التي لم تتغير صوتا وصرفا ونحوا منذ تدوينها حتى اليوم. أما الفترة التي سبقت تدوينها، فهي ضاربة في القدم. ولقد رأينا أنها أقدم من الأكادية خصوصيةً لغويةً ساميةً، علما أن تدوين الأكادية يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد!
2. العبرية الحديثة: وقد تم إحياؤها على يد اللغوي اليهودي اِليِعَزَر بن يهودا بداية القرن العشرين، وتبنت ذلك الحركة الصهيونية. ولعل إحياء العبرية أهم إنجاز من إنجازات الصهيونية العالمية!
3. اللغة الأمهرية: لغة إثيوبيا اليوم. وتكتب بكتابة مقطعية مشتقة من خط المسند الحميري.
4. اللهجات الآرامية: ويحدث بها اليوم حوالي ثلاثة ملايين شخص متوزعين كما يلي:
ـ السريانية: ويتحدث بها اليوم في معلولا وصيدنايا في سورية. ويسمى المتحدثون بها بالمسيحيين السريان.
ـ الكلدانية: ويتحدث بها اليوم في القامشلي والمالكية في شمال شرق سورية وفي شمال العراق في منطقة الموصل وزاخو وبطنايا وفي شرقي تركيا في منطقة حسنة وما جاورها. ويسمى المتحدثون بها بالمسيحيين الكلدان. إلا أن المستعمر سماهم بالآشوريين فراجت هذه التسمية عند بعضهم!ـ المندعية: ويتحدث بها في شمال العراق، في منطقة وودي لالش. ويسمى المتحدثون بها بالمندعيين/الصابئة، وهم المعروفون في العراق باسم اليزيديين/عبدة الشيطان!
2.3. اللغات الحامية الحية:
إذا استثنينا القبطية ـ وهي لغة كنسية ـ فإن اللغة الحامية الوحيدة التي لا تزال محكية هي اللغة الأمازيغية المحكية في الجزائر والمغرب وما إليهما من بعض المناطق الصحراوية. وتتوزع اللغة الأمازيغية اليوم على اللهجات التالية:
أ) الجزائر:
ـ الأمازيغية: ويتحدث بها نواحي كثيرة من الجزائر، وأفصحها اللهجة الزّْواوِيَّة المحكية في منطقة تِيزِي وِزُّو التي شهدت نشاطا كبيرا لإحيائها.
ب) الصحراء:
ـ القبائلية: ويتحدث بها قبائل الطوارق المنتشرين في الصحراء بين المغرب والجزائر؛
ج) المغرب:
ـ الأمازيغية/السوسية (تاسوسيت): ويتحدث بها في جنوب المغرب؛
ـ الشِّلحة (تاشلحيت): ويتحدث بها في جبال الأطلس؛
ـ الريفية (تاريفيت): ويتحدث بها في شمال المغرب؛
د) مالي وتشاد:
ـ الكوشية: ويتحدث بها في بعض نواحي تشاد ومالي.
4. أهمية دراسة اللغات السامية:
إن معرفة اللغات السامية أمر في غاية الأهمية لأسباب كثيرة أهمها التاريخ والسياسة وعلم اللغة والمفردات الخ. ولقد ظلت هذه الدراسات زمناً طويلاً حكراً على المستشرقين الذين بدؤوها وأسسوا لها وطوروها. لكن إلى متى؟
وتتلخص الأسباب الموجبة لدراسة اللغات السامية الحامية فيما يلي:
1. الأسباب اللغوية: اللغة العربية لغة سامية تنتمي إلى أسرة اللغات السامية الحامية، ومعرفة تلك اللغات شرط أساسي لعلم اللغة لمقارن والأدب المقارن!
2. الأسباب الثقافية: نحن ـ العرب ـ ورثة الإرث الحامي السامي القديم!
3. الأسباب السياسية: هنالك اسباب سياسية كثيرة تدعو لدراسة اللغات السامية لوضع الأمور في نصابها سوف أتطرق لها فيما بعد.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن حزم الأندلسي، الإحكام في أصول الأحكام. تحقيق أحمد شاكر. القاهرة، 1980. ج 1 ص 30.
[2] يهوذا بن قريش، الرسالة. صفحة 2 و2= مكرر.
[3] يهوذا هاليفي، كتاب الحجة والدليل في تصر الدين الذليل (كتاب الخزري). ص 2:68.
[4] مروان بن جناح القرطبي، كتاب اللمع. صفحة 7-8. ومن الجدير بالذكر أن كتاب التوراة يحتوي على الكثير من الكلمات المجهولة المعنى تسمى في الدراسات التوراتية بـ hapax legomena (من اليونانية ومعناها "الكلمات التي وردت مرة واحدة في النص" وترادف "الغريب أو النادر" في دراسات العربية). ولا سبيل إلى تفسير تلك الكلمات إلا بمقارنتها بالعربية وأول من اتبع هذا المنهج هو سعاديا الفيومي (القرن الثالث للهجرة) في كتابه "كتاب الثمانين لفظة المفردة" وهو كتاب مطبوع.[5] موسى بن عزرا، كتاب المحاضرة والمذاكرة. صفحة 21 و22. وقد ألف ابن برون كتاباً قيماً اسمه "كتاب الموازنة" بين العربية والعبرية يدل على مدى تطور علم اللغة المقارن في تلك الفترة. وكان يهوذا بن قريش قد سبقه إلى ذلك في "الرسالة" وقد قارن فيها بين العربية والعبرية والسريانية إلا أن ابن برون توسع كثيراً في كتابه الذي أفرده للعربية والعبرية فقط.
[6] ربما رد بعض الملاحدة الدهريين كلمة "آمين" إلى اللغة المصرية القديمة، مثلما ردوا التوحيد الذي دعا إليه نبي الله موسى، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، إلى ديانة إخناتون، وفي ذلك نفي لأصلها السماوي. ومن الجدير بالذكر أن ديانة إخناتون لم تكن توحيدية كما زعم فرويد وغيره لأنها كانت تعتبر إله الشمس "رع" الأله الأكبر دون نفي وجود الآلهة الآخرى، بينما تقوم عقيدة التوحيد لدى المسلمين والنصارى واليهود على الإيمان بالإله الواحد خالق السماوات والآرض وما بينهما، الذي عرف البشرية بذاته العليا بواسطة الوحي إلى الأنبياء والرسل، عليهم السلام. فديانة إخناتون كانت مشوبة بالشرك، وتسمى "التوحيد المشوب بالشرك" (Henotheism)، بعكس "التوحيد" المطلق (Monotheism)، فليتنبه إلى ذلك.
ب) الكتابات السامية الحامية القديمة
1. الكتابات السامية
المرحلة الأولى: المرحلة الصُّوَرِيَّة
إن أول كتابة ظهرت في التاريخ هي الكتابة المسمارية التي اخترعها السومريون، وهم شعب مجهول الأصل. وكانت الكتابة المسمارية في الأصل كتابة صُوَرِيَّة بمعنى أنه إذا أراد الكاتب أن يكتب الكلمة الدالة على الرجل فإنه يرسم هيئة الرجل، تماماً مثلما نرى في الكتابة الهيروغليفية التي هي أيضاًَ كتابة صورية. والفرق بين الكتابتين الصوريتين المسمارية والهيروغليفية يكمن في أن أشكال الكتابة المسمارية تطورت بسرعة لتتخذ أشكالاً مجردة هي أشكال المسامير ـ ومن ثمة تسميتها بالكتابة المسمارية ـ بينما حافظت الكتابة الهيروغليفية على أشكالها الصورية البدائية. وهذا الفرق عائد إلى طبيعة المادة المستخدمة في الكتابة، فلقد استعمل الرافدينيون الطين والماء والقصب في الكتابة، فصنعوا ألواحاً من الطين مربعة أو مستطيلة، واستعملوا في الكتابة قلماً من القصب كانوا يغرزونه في الطين وهو رطب ثم يخطون ما يريدون تدوينه من النصوص، ثم يطبخون الألواح الطينية في التنور فتشد وتصلب لتبقى حتى اليوم. ومن الجدير بالذكر أن غرزة القلم في الطين كانت تكوّن مثلثاً في اللوح أشبه ما يكون برأس المسمار، تتبعه خطوط مستقيمة نحو الأسفل أو اليسار، مما أدى إلى نشوء أشكال تشبه المسامير التقليدية، وهو ما أوحى بتسمية الكتابة الرافدينية بالكتابة المسمارية كما أسلفت. أما قدامى المصريون فلقد استخدموا ورق البردي والحبر في كتابتهم، وورق البردي سهل الاستعمال ولا يفرض استعماله على الكاتب مناورات معينية ولا يؤثر على طبيعة الكتابة، من ثمة عدم تطور أشكالها ومحافظتها على شكلها الصوري البدائي، بعكس الكتابة المسمارية التي أصبحت تختلف كثيراً عن هيئة مسمياتها التي كانت في البداية صورية بدائية أيضاً (مثل الصينية اليوم)!
والكتابة الصورية كتابة صعبة لأنها تفترض وجود صورة لكل مسمى، وهو ما يجعل حفظها واستعمالها بوضوح أمراً صعباً لكثرة المسميات والأشياء وكثرة الاشتراك في معاني صورها. أضف على ذلك أن كتابة المفاهيم الفكرية والمجاز شبه مستحيل في هذه الكتابة لصعوبة تصويرها. وللتمثيل على ذلك أتوقف عند مفهومَي الإله والسيادة في الكتابتين المسمارية والهيروغليفية.
لقد دل الرافدينون على كلمة /الإله/ بلغتهم ـ وهي إلٌّ ـ بنجمة. والنجمة تشير إلى السماء، وهذا يعني أن الرافدينيين كانوا يعتقدون أن الإله إنما يكون في السماء. من جهة أخرى باتت صورة النجمة مشتركة لأنها تدل على 1) النجمة و2) السماء و3) الإله. أما قدامى المصريين فعبروا عن مفهوم /السيادة/ في لغتهم برسم صورة أسد رافعاً رأسه بشموخ وعز. وهذا يعني أيضاً أن صورة الأسد في الكتابة الهيروغليفية مشتركة لأنها تدل على معنى حسي هو الأسد ومعنى مجازي هو السيادة.
إذاً أدت كثرة الاشتراك في الصور والرموز وكذلك صعوبة الدلالة على المفاهيم الفكرية والمجاز إلى اختراع طائفة من الرموز في الكتابتين لتحديد المعاني وضبطها حتى يتمكن الكاتب والقارئ على السواء من فهم السياق من أول وهلة، وهي الرموز المسماة بمحددات المعاني. مثلاً: استعمل الرافدينيون النجمة للدلالة على الإله أولاً ثم على كل ما له علاقة بالدين والعبادة ثانياً. فبمجرد رؤية نجمة في جملة يفهم القارئ منها أن الجملة تفيد معنى دينياً. الأمر ذاته ينطبق على الهيروغليفية التي تثبت صورة الرجل للدلالة على أي شيء يشير إلى الإنسان، أوصورة الخشب للدلالة على أي شيء يصنع من الخشب، بما في ذلك القوارب والسفن، مما يؤدي إلى نشوء نظام اصطلاحي يسهل على الكاتب والقارئ أمر الكتابة والقراءة، ويعقده في الوقت ذلته، مما أدى بالرافدينيين والمصريين إلى البحث عن حلول لمشكلة الكتابة الصورية التي باتت غير قادرة عن التعبير بوضوح عما يريدون تدوينه مع التقدم الفكري والعلمي للحضارتين الرافدينية والمصرية.
ومن الجدير بالذكر أن الكتابة الصينية اليوم لا تزال في المرحلة الصُّوَرية بحيث يجب على الطفل ـ مثلاً ـ أن يكون حافظاً لبضعة آلاف رمز حتى يستطيع أن يقرأ كتاباً من كتب الأطفال!
المرحلة الثانية: المرحلة المقطعية
إذاً الكتابة الصورية هي كتابة تصور الأشياء التي يراد كتابتها تصويراً كما مر معنا. أما الكتابة المقطعية فهي كتابة صوتية. والكتابة المقطعية الصوتية تتكون من مقاطع صوتية تبدأ بحرف صامت يتبعه حرف صائت قصير مثل /بَ/، /بُ/، /بِ/، أو يتبعه حرف صائت ممدود مثل /با/، /بُو/، /بِي/. وأول مَن مارسها هم أواخر السومريون وأوائل الأكاديين ـ على خلاف في ذلك. وعليه فإن الكتابة المسمارية المقطعية كانت أول كتابة مقطعية في التاريخ تطورت من خلال بحث الرافدينيين عن حل لمشكلة الكتابة الصورية، فأتت "المساميرُ" المفردة والمركبة فيها ليس للدلالة على رموز مجردة بل على مقاطع صوتية بعينها مكونة من حروف ساكنة وأصواتكما أسلفت.
وتمر قراءة الكتابة المسمارية المقطعية بثلاث مراحل هي:
1. قراءة النص الأكادي ونقل المقاطع الصوتية المسمارية إلى العربية؛
2. تجميع المقاطع الصوتية وتكوين الكلمات؛
3. القراءة والترجمة.
مثال (ورسم الكتابة المسمارية في هذا البرنامج محال):
1. بَعْ.عَلْ شَ.مِ.اي و إِرْ.صَ.تم
2. بَعْل شَمِي وإرصَتِم
3. "رَبُّ السماوات والأرض".
ومن الجدير بالذكر أن الهيروغليفية طورت أيضاً، في مرحلة لاحقة، كتابة مقطعية أيضاً، إلا أن الفرق بين الرافدينيين وقدامى المصريين أن الأوائل تخلوا نهائياً عن الكتابة الصورية والرمزية بعدما طوروا الكتابة المقاطعية، بينما لم يتخل قدامى المصريين عن الكتابة الصورية قط، وهو ما جعل من الكتابة الهيروغليفية كتابة معقدة جداً تتكون من صور ورموز ومقاطع صوتية ثنايئة الأصوات وثلائية الأصوات وحروف أبجدية! وهذا عائد إلى المكانة الرفيعة التي كان الكتاب المصريون القدامى يحتلونها، وهي المكانة التي جعلتهم يحولون دون تبسيطها وبالتالي انتشارها حفاظاًَ منهم على مكانتهم العالية والامتيازات التي كانت ترتبط بتلك المكانة العالية.
وأخيراً أشير إلى أن الكتابة المقطعية تتكون من 200 إلى 400 مقطع صوتي حسب أصوات اللغة المستعملة لها. ومن اللغات التي لا تزال تستعمل الكتابة المقطعية حتى اليوم: اللغة الأمهرية، وهي لغة سامية تعتبر امتداداً للجعزية، لغة مملكة أكسوم في الحبشة. فالكتابة الجعزية/الأمهرية هي كتابة مقطعية مشتقة من خط المسند الحميري. وهذا من عجائب اللغات لأن الأحباش أخذوا الكتابة الأبجدية التي تعتبر آخر مرحلة من مراحل تطور الكتابة، وحولوها إلى كتابة مقطعية، فأداروا بذلك عقارب الساعة إلى الوراء كما يقال!
هيئة الكتابة الإثيوبية المقطعية:
</A>